توقيت القاهرة المحلي 19:45:27 آخر تحديث
  مصر اليوم -

موسم الحصاد فى زمن مضى

  مصر اليوم -

موسم الحصاد فى زمن مضى

بقلم - عمار علي حسن

(1) أطالع من بعيد الأهرام الذهبية وهى تتابع في الحقول فوق الأرض القاحلة، تدفع بجنباتها المنسابة النسائم، وتكره الريح والفئران وعبث الصغار والبهائم المنفلتة وأحقاد الحاسدين. كنا ندور حولها فرحين، فينهرنا الآباء الذين ينظرون بامتنان إلى حصاد زرعهم الذي صار أجرانًا بهيّة، وهم يستعجلون أصحاب المذارى الخشبية المتينة الممشوقة، الذين ينتقلون من جرن إلى آخر، وفى أفواههم أدعية لله، خالق الريح، أن يهبهم نسائم رخية. كنا نسمى صاحب كل مذراة «المُقرقر»، ولم يكن أحد يجيد هذه الحرفة في قريتنا سوى ثلاث أسر بينها قرابة ونسب، كبيرهم «عشم الله متى» ذو الصبر والحكمة والجسد الذي يغالب أوجاعه التي تزيد مع الزمن.
كنت أنظر إلى المذراة في يده، فينزلق بصرى على يدها الملفوفة في عناية إلى كفها المطروحة على أسنان طويلة بارزة، تنغرس في جانب الجرن، وتهيل منه على قدر استطاعتها تبنًا، دُفِن القمح أو الفول أو الشعير فيه، وتدفعه إلى أعلى فيُشاكسه الهواء، وحين تعود تكون الغلّة قد سقطت سريعًا إلى أسفل، بينما طار التبن قليلًا، ليتراكم على مهل. كان الجرن الواحد يستغرق ساعات من المقرقر المُجهد، حتى يفصل الغلة عن تبنها، فتمتد الأيدى فرحة إليها، وتُعبئها في أجولة الخيش الفارغة حتى تمتلئ، فتُربط بإحكام، وتُرفع فوق ظهور الحمير، لنندفع وراءها وعقائرنا تصدح بغناء عذب إلى البيوت الخاوية، حيث الأمهات المنتظرات في لهفة خبز السنة.

حين يفرغ المقرقر من عمله يكون نصيبه قدرًا من الغلّة يُقدره على حسب ارتفاع الجرن وغزارة الغلال، يأخذه في جواله الذي يتبعه وهو يدور على الحقول، ثم يُقبل ظهر راحته وبطنها، فلما يمتلئ يأتى بغيره، وهكذا ليجمع نصيبًا في النهاية، يكون كافيًا كى يُعلِّم ابنه الصغير هذه الحرفة المُجدية.

لكل محصول مذراته، ولكل جرن رجله الذي يفهمه، وريحه التي تُمكِّنه من العمل في سلاسة. وحين تكف السماء عن إرسال هوائها، ويزمّ الجو، وتلسع الشمس الجباه والوجوه والأقفية، وتسخن العمائم ومن تحتها الرؤوس، يقف المقرقر ناظرًا إلى البعيد، لعل الله يأتى بالفرج، ويجد بعض وقت ليهِشّ عن عمامته وجبهته وكتفيه بعض التبن الذي علق بها.

لم يدْرِ أي منهم وقت أن كنا صغارًا أن الزمن يعمل في غير صالحه، فالمصانع التي تزمجر بعيدًا عن أسماعنا وعيوننا أنتجت تلك الماكينة العفيّة التي بوسعها أن تفصل الغلّة عن التبن أسرع مما كان يتصور أي منّا في الأيام البعيدة.

أتذكر أول ماكينة من هذه دخلت إلى واحد من الحقول الممتدة، بينما أختها الأقدم المتآكلة تروسها كانت لا تزال تعمل لرغبة أولئك الذين يتمسكون بها، ينتظرونها حتى تفرغ من عملها، ويستدعون المقرقرين فيأتون مسرعين وفى يد كل منهم مذراته الطويلة.

صارت الماكينة اثنتين، ثم ثلاثًا، فأربعًا، واختفت القديمات متحسرات على أيامها التي لا تُنسى، وشاطَرها المقرقرون الحسرات، وهم يمصمصون شفاههم المقددة حين ينظرون إلى كل مذراة واقفة في صمت إلى جانب جدار أصَمّ، غارقة في ذكرياتها، التي تنفجر في رؤوسنا أحيانًا صورًا مبهرة لتلك الآلة الخشبية البسيطة، التي كنا نُعلق آمالنا عليها في جنى حصاد زروعنا التي اصفرَّت.

كانت بيوت المقرقرين على أول القرية، وكنت أراهم جالسين إلى جانب الحوائط في ساعات الأصيل وأول الليل، وقد أسندوا رؤوسهم على أكفهم المعروقة، يتابعون الحمير المتتابعة وعلى ظهورها أجولة القمح والشعير والفول، ويحصون الغلة التي فارقتهم، بعد أن فات زمنهم، ولم تعد تشغلهم الريح والغناء والكدح وعبث الصغار وفئران الحقول السمينة.

(2) ‏ترك المعلم شحاتة ورثًا لولديه قدره عشرة ملايين جنيه. الأول اشترى بنصيبه شقة فاخرة. الثانى أنشأ بنصيبه ورشة خراطة، اشتغل فيها خمسة صنايعية، ينفقون على خمس أسر. بعد سبع سنوات، زاد ثمن شقة الأول، لكن صاحبها تعثر في بيعها بسبب الركود. الثانى تضاعفت ثروته ثلاث مرات، فاشترى شقة مناسبة بسعر أرخص مما اشترى به أخوه، واشترى أيضًا ورشة أخرى، وأدخل ابنته وولده مدرسة أفضل.. وهكذا.

(3) كان طه حسين يقوم عقب إنهاء محاضرته بسرد قائمة كتب يجب أن يطّلع تلاميذه عليها، كجزء أساسى من المنهج. من هنا هاجم المذكرات الجامعية، ووصفها بأنها إثم يجب أن يُمحى، ويُعاقب مَن احترفه، مهما يكن مركزه في الجامعة.

وكان طه حسين تنويريًّا حقيقيًّا مستقلًّا وليس بوقًا مأجورًا أو موتورًا أو ساعيًا وراء شهرة جوفاء. ولهذا رأى القضايا في إطار مقارن. مثال لذلك رأيه الذي يقول: قتل المسلمون واضطهدوا علماء، وقتل المسيحيون واليهود واضطهدوا علماء أكثر. والحق يُقال إن ما فعله المسلمون في تاريخهم كان أمرًا فرديًّا أما الآخرون فقد حاربوا العلم نفسه وأهله.

(4) قبل اثنين وثلاثين عامًا، قرأت نصوصًا قصصية قصيرة لإبراهيم عبدالمجيد. شدّنى كثيرًا خياله الخصب، وسرده الجذاب، وبساطة المعانى التي تحملها السطور. تابعت وقرأت ما يُكتب من روايات وقصص وكتب ومقالات، يبنى بها، وهو في سباق مع الزمن، مشروعًا أدبيًّا مهمًّا، يؤثر في جيلنا، وسيظل يفعل في الواردين على القراءة.

(5) أرى طبول الحرب تقرع في المنطقة خافتة، فهل ترتفع في قابل الأيام، وتندلع بالفعل، ولاسيما بعد قول واشنطن إن إيران على بُعد أسابيع قليلة من امتلاك سلاح نووى؟.ِ

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

موسم الحصاد فى زمن مضى موسم الحصاد فى زمن مضى



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 19:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة
  مصر اليوم - حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 10:24 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 09:20 2024 الخميس ,08 شباط / فبراير

نصائح لعرض المنحوتات الفنية في المنزل

GMT 04:36 2024 الإثنين ,14 تشرين الأول / أكتوبر

فئات مسموح لها بزيارة المتحف المصري الكبير مجانا

GMT 15:44 2021 الجمعة ,22 تشرين الأول / أكتوبر

تفاصيل حوار باتريس كارتيرون مع رزاق سيسيه في الزمالك

GMT 06:24 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

رينو 5 الكهربائية الجديدة تظهر أثناء اختبارها

GMT 08:54 2017 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

نادية عمارة تحذر الأزواج من مشاهدة الأفلام الإباحية

GMT 00:03 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

كيت ميدلتون ترسل رسالة لنجمة هندية بعد شفائها من السرطان

GMT 07:36 2024 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ياسمين صبري تتألق بالقفطان في مدينة مراكش المغربية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon