عمار علي حسن
يمكن القول، من دون مواربة ولا التواء، إن التدين المحافظ والاستبداد السياسى صنوان، فهما يتجاذبان فى أغلب الأحيان ويتعانقان، ويتبادلان المنافع، ويتقاسمان الوظائف، ويخلقان بينهما نمطاً من «التغذية المرتدة»، ويحرص كل منهما على حياة الآخر، ويتساندان أو يتحالفان فى وجه أى قوة دافعة تروم التغيير وتبتغى التجدد، لأنهما يعتبرانها خطراً داهماً على وجودهما ومصالحهما، ولا مناص أمامهما من كبتها ومحاصرتها، لتستقر فى الهامش البارد.
وقد عرف تاريخ البشرية المديد صولات وجولات من التكاتف بين رجال دين محافظين ورجال حكم مستبدين، ولا نكاد نجد استثناءً فى هذا شرقاً ولا غرباً. وقد أدرك الأوروبيون هذه المسألة مبكراً فزاوجوا بين المطالبة بالإصلاح الدينى والإصلاح السياسى، بل جعلوا الأول مقدمة للثانى، بعد أن استقر فى يقينهم أن السبب الأساسى فى تخلفهم هو العناق الدائم بين السلطتين الزمنية والسلطة الكنسية، والذى أنتج ظاهرة «الحق الإلهى للملوك».
ورغم اختلاف تجربة الكنيسة الغربية عن تجربة المؤسسات الدينية فى العالم الإسلامى، ومع أن الإسلام لا يطلب فى نصه وجود طبقة من رجال الدين، ويقيم علاقة مباشرة بين الإنسان وربه، فإن الممارسة انحرفت عن هذا التصور المستقيم أو النهج الصراطى، حيث حوّل الحكام الدين إلى أيديولوجيا وحفزوا فقهاء ومفسرين ومحدثين على إنتاج ما يبرر مسلك السلطة، أياً كان. ولهذا لا يمكن تناول التدين المحافظ فى بلادنا بعيداً عن السياق السياسى الذى ينتجه، وينتفع منه، كما لا يمكن تفسير طبيعة النظام السياسى المصرى من دون اختبار الآثار التى يتركها التدين المحافظ على الأفكار والممارسات السياسية والاجتماعية.
وقد ارتبط مصطلح «المحافظية» بالتطور السياسى الاجتماعى فى الغرب، وخرج من رحم التجارب الحياتية والممارسة الإنسانية ليسكن بطون القواميس والمعاجم والموسوعات. وعنى بـ«المحافظ» فى الثقافة الغربية عموماً ذلك الشخص أو الاتجاه أو المؤسسة غير الليبرالية وغير الثورية.
وهناك من ينظر إلى «المحافظة» باعتبارها موقفاً ينطوى على رغبة قوية فى الاستقرار، وميل جارف إلى مقاومة التغيير، لتجنب ما يحمله من آثار مفاجئة. ولو كان التغيير فى لحظة ما أمراً لا مفر منه، يستجيب المحافظون جزئياً لمقتضياته عبر تلطيفه والتكيف مع التغيرات الطارئة بأقل درجة من الاضطراب. والمحافظون يجفلون من الثورات ويثمنون السلطة والنظام والقانون، ويطيعون القيادة لاسيما إن كانت جيدة من وجهة نظرهم.
وينقسم المحافظون حسب موقفهم من التغيير إلى ثلاث فئات، هى «الرجعيون» و«المعتدلون» و«الراديكاليون». ويأتى على رأس الرجعيين فيلسوف الثورة المضادة فى فرنسا دى ميستر (1753: 1851) الذى كان يتحمس لإعادة الملوك إلى عروشهم التى أزيحوا عنها، ويؤمن بأن الجلادين هم أفضل من يدافع عن الكنيسة والدولة. ولهذا وقف الرجعيون فى وجه الأحزاب اليسارية والاتجاهات العلمانية ورموها بالهرطقة، واعتبروها اتجاهات هدامة تقوض بنيان المجتمع. لكن أغلب المحافظين السياسيين فى أوروبا كانوا من المعتدلين، وقد تأثروا إلى حد بعيد بفلسفة إدموند بيرك (1729: 1809) وانتشروا فى جميع البلدان الناطقة بالإنجليزية والمعتنقة للبروتستانتية، أما فى البلاد الكاثوليكية فقد تأخر التفاعل الإيجابى للمحافظين مع الديمقراطية حتى اكتووا بنار الفاشية والشيوعية، وأدرك الفاتيكان أن التحالف مع الليبراليين بات أمراً لازماً، بعد أن كان مستسلماً لأفكار من قبيل تلك التى أطلقها القس جيرى فولول، تلميذ بيرك، الذى أسس حركة عام 1979 أطلق عليها «الأغلبية الأخلاقية» تحالفت مع الكاثوليك واليهود والمورمون، وكان ينادى بـإطلاق البنادق اللاهوتية على الليبرالية والنزعة الإنسانية والعلمانية، ويطالب بالعودة إلى القيم التقليدية. وقد سميت هذه الحركة «الأصولية المسيحية»، بيد أن هذا المفهوم انسحب على أى حركة دينية ترفض تأويل النص الدينى، وتعادى النظريات العلمية، لاسيما الداروينية التى تخالف قصة الخلق كما وردت بالتوراة، وتدعو إلى تأسيس المجتمع على العقيدة المسيحية حسبما تراها وتحددها تلك الأصولية.