توقيت القاهرة المحلي 01:32:45 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«حريتى أن أوسّع زنزانتى» (1-2)

  مصر اليوم -

«حريتى أن أوسّع زنزانتى» 12

عمار علي حسن


«حريتى أن أوسّع زنزانتى».. كثيراً ما يردد كتّاب عرب كثر هذا المقطع الشعري الرائق والعميق الذى أبدعته قريحة محمود درويش، كلما هموا ليكتبوا حروفهم على الورق، أو ينطقوا بها عبر الإذاعات والفضائيات، معتبرين، أو حتى متوهمين، أن ممارسة الكتابة أو جريان الكلام على اللسان تقربهم من التحرر والخلاص الذى ينشدونه، والذى دفع كثيرون منهم فى سبيله ما فوق طاقتهم من العرق والدم والدموع والوقت والجهد والأحلام المجهضة.

وحين اندلعت الثورات تهلل هؤلاء ودقوا الهواء بأيديهم وصرخوا: ها قد جاءت لحظة التحرر التى انتظرناها طويلاً حتى اشتعلت الرؤوس شيباً وشاخت النفوس، لكن هذه اللحظة سرعان ما تبخرت تحت وطأة الإرهاب والعسكرة والفوضى والقتل والتشرد والأطماع الرخيصة واهتزاز الدول وعشوائية الكيانات الاجتماعية وتأخر الثورة الفكرية والإصلاح الدينى.

كأن «درويش» يلخص بعبارته تلك حال الكاتب العربى، قبل الثورات والانتفاضات وبعدها، فما إن خطفه الحلم إلى حرية مجنحة، حتى رده الواقع الأليم إلى رغبة فقط فى توسيع الزنزانة، أو تحسين شروط الحياة القاسية داخل السجن الكبير. ومثل هذا التصرف هو ما يفعله المتفائلون، أما اليائسون فينسحبون داخل نفوسهم المهيضة، ويسحبون جدران الزنازين المظلمة لتضيق عليهم أكثر.

لكن هؤلاء وهؤلاء لا يحجبون أبداً أولئك الذين لا يغادرهم الأمل فى تحصيل الحرية مهما طال الزمن وزاد العناء، حرية التفكير والتعبير والتدبير، كاملة غير منقوصة، ومبدئية لا مساومة عليها، وثمينة لا موضع لمقايضتها بأى شىء، لا بالأمن ولا بالخبز، فلا شىء يغنى عن الحرية، ومن يطلب أمنه على حساب حريته لا يستحق أمناً ولا حرية.

لكن مع شعار «تدرجوا واصبروا حتى تنضجوا فتنالوا حريتكم» المرفوع فى وجه كل من يريد حرية حقيقية «الآن.. وهنا» يغلب منطق المتشائمين الذى يقوم على أنه لم يعد أمام كل منا سوى أن يحمل زنزانته فوق ظهره، فتسير معه فى غدوه ورواحه، وحله وترحاله، وليس له أن يتخفف أو يتخلص منها، بل عليه فقط أن يترك ظهره ليعتاد على التحمل مهما طال الطريق، أو يتودد إلى الزنزانة فلا تُثقل من حمولتها فتعجزه عن السير تماماً، وهكذا حتى يصل إلى «المحطة الأخيرة» من عمره المترع بالشقاء، ويغمض عينيه، لينعم بالحرية الأخيرة والأبدية فى العالم الآخر.

المشكلة فى مثل هذا المسار، فى دنيا الناس، أن الزنزانة متعددة الجدران، فلا يكفى أن نهدم أحدها أو نصنع به كوة كافية لتهريب أجسادنا وأرواحنا منها حتى نجد أنفسنا أحراراً طليقين، بل علينا إما أن نمارس لعبة ترويض الوقت، أو أن نبحث عما نزيل به الزنزانة تماماً، وعندها علينا أن نتحمل نتيجة المغامرة، فإما التحرر وإما الموت، أو الموت فى سبيل الحرية.

ويقول الخائفون والمترددون منا: علينا قبل أن نقرر ماذا سنفعل أن نقرأ موسوعة الباحث العراقى عبود الشالجى التى سماها «موسوعة العذاب» ليسرد فى ثمانية مجلدات كاملة طرق تعذيب السجناء والمتمردين على السلاطين الجائرين فى التراث العربى، ونضيف إليها ثمانية مجلدات أخرى من صنع خيالنا، أو نتاج بحثنا أو تجربتنا، عن التعذيب عند العرب المعاصرين، الذين ما إن تخلصوا من صدام حسين ومعمر القذافى حتى سقطوا فى أفخاخ «القاعدة» وفروعها، و«داعش» وأتباعها، و«الحوثى» وأنصاره، دون أن يرحل كثير من المستبدين التقليدين والتاريخيين الذين تتبدل ظروف الناس حولهم وهم على قسوتهم قابضون.

قد تنفعنا فى هذه الحالة قراءة روايات عبدالرحمن منيف وصنع الله إبراهيم، ويمكن أن نختتم هذه القراءات بروايتين خفيفتين «العسكرى الأسود» ليوسف إدريس و«السرداب رقم 2» للعراقى يوسف الصائغ، لكننا قد نجد أنفسنا نعانق الخوف مع أحمد سعداوى نبحث عن «فرانكشتاين فى بغداد» أو دمشق، سيان، وبقية العواصم العربية ليست أحسن منهما سوى فى أن درجة الخوف أخف قليلاً، أو أنها مؤجلة بعض الوقت، أو هناك من يضغطون على أنفسهم بقسوة حتى يتفادوها، بدفع شىء آخر أو قيمة أخرى، قد تكون أجدى وأنفس.

ويُسدى هؤلاء الخائفون النصح إلى من يتهم بعض الباحثين بالانزلاق نحو التحيز والانتقاء المتعمد الذى يحرف الحقائق، وإلى من يعتقد فى أن كل ما بالروايات من صنع الخيال، بأن يقرأ ما كتبه معارضون عن تجربتهم فى سجون الحسن الثانى وحافظ الأسد ونجله الذى يهدم سوريا على رؤوس أهلها فى سبيل كرسيه الذى لم تتبق فيه سوى رجل واحدة، وكذلك ما كتبه الشيوعيون عن عذابهم المرير فى سجون صدام وقبله فى سجون عبدالناصر، والمتطرفون الإسلاميون فى أقبية القذافى، وليتجول فى السير الذاتية للمناضلين أو الرافضين العرب من المحيط إلى الخليج، سيجد أينما حل زنازين، كما تسمى فى مصر، أو مهاجع كما يطلقون عليها فى العراق والشام.

أما المتفائلون ممن لديهم العزم والجرأة على تحدى كل هذا دفعة واحدة، فسيهدمون الجدار الأول فى زنازيننا، جدار السلطة السياسية الغشوم الذى بُنى من التجبر والتسلط والفساد، فتنقص الحمولة الثقيلة الجاثمة فوق ظهورنا، ويكون بوسعنا أن نزيد من تلاحق خطواتنا إلى الحرية، خاصة إن كنا عازمين على هدم الجدار الثانى، دفعة واحدة، أو حتى لبنة لبنة حتى يغمرنا النور والبراح.

(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى).

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«حريتى أن أوسّع زنزانتى» 12 «حريتى أن أوسّع زنزانتى» 12



GMT 10:38 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

المايسترو

GMT 10:35 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

أندلس قاسم سليماني... المفقود

GMT 10:33 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

البراغماتيتان «الجهادية» والتقدمية... أيهما تربح السباق؟

GMT 10:31 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

... وَحَسْبُكَ أنّه استقلالُ

GMT 10:30 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

تصادم الخرائط

GMT 10:28 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

اقتصاد أوروبا بين مطرقة أميركا وسندان الصين

GMT 14:09 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

تركيا في الامتحان السوري... كقوة اعتدال

GMT 14:07 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

كيف نتعامل مع سوريا الجديدة؟

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:50 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

المجوهرات العصرية زيّنت إطلالات الملكة رانيا في 2024
  مصر اليوم - المجوهرات العصرية زيّنت إطلالات الملكة رانيا في 2024

GMT 08:38 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 08:32 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

ايجابيات وسلبيات استخدام ورق الجدران في الحمامات
  مصر اليوم - ايجابيات وسلبيات استخدام ورق الجدران في الحمامات

GMT 08:08 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

أحمد الشرع تُؤكد أن سوريا لن تكون منصة قلق لأي دولة عربية

GMT 03:29 2020 السبت ,14 آذار/ مارس

بورصة تونس تغلق التعاملات على انخفاض

GMT 14:03 2020 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أول تعليق من محمد منير بعد وفاة مدير أعماله وزوج شقيقته

GMT 06:49 2019 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

عزل ترامب
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon