عمار علي حسن
وتقدر الأغلبية الكاسحة فى الشرق والغرب معاً حرص أى إنسان على كرامته، الأمر الذى تجلى فى قول شكسبير على لسان ياجو، أحد أبطال مسرحيته الأثيرة (عطيل): «إننى أحتقر الإنسان المطيع الذليل، الذى يحنى ركبته استخذاء، ذلك الذى يقضى عمره منكباً على عبوديته، معتزاً بذله. إنه أشبه ما يكون بحمار سيده، لا يعيش لشىء سوى العلف». وتجلى أيضاً فى تفضيل الشنفرى، أحد الشعراء العرب الصعاليك، أن يأكل التراب عن أن يسأل الناس صدقة، ما عبر عنه فى بيت بديع من الشعر يقول: «وأسف تراب الأرض حتى لا يرى ... على من الطول امرؤ متطول».
وأجملت مقدمة الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، الذى رأى النور عام 1948، النظرة العالمية لكرامة الإنسان، حين نصت على «الاعتراف بكرامة جميع أفراد العائلة الإنسانية، وبحقوقهم المتساوية، وغير القابلة للمساومة»، وحين شددت على أن «جميع الناس يولدون أحراراً متساوين فى الكرامة والحقوق»، وهو ما يمثل «أساس الحرية والعدالة والسلم فى العالم». وإمعانا فى ترسيخ الاهتمام العالمى بالكرامة الإنسانية، نشأ «مشروع الكرامة الإنسانية العالمية» فى رحاب المنتدى الاقتصادى العالمى 2020، وهو يرمى إلى العمل من أجل توفير حياة مادية فضلى.
لكن الكرامة الإنسانية لا تقتصر فقط على توفير حد الكفاية للناس من غذاء، وكساء، ودواء، وإيواء، وترفيه، حسبما يقصد هذا المشروع، بل تمتد إلى تحرير الإنسان من الخوف، وصيانته ضد كل أصناف القهر والإذلال، وإقرار حقوقه السياسية والاجتماعية والروحية، وكل ما يجعله يحيا عزيزاً مهاباً.
فالكرامة تعنى أن «الإنسان فوق كل ثمن»، أى لا يمكن بيعه بأى سعر. فكل ما له ثمن سلعة أو وسيلة، والإنسان ليس سلعة تباع وتشترى، وليس وسيلة إلى أى شىء، إنما هو غاية متفردة. وما كان يجرى أيام العبودية والرق كان يخرج الإنسان من آدميته، ويجور على كرامته، ولذا حرمته الأديان السماوية، والمذاهب الفلسفية المنصفة، والقوانين والقواعد الدولية الحديثة والمعاصرة لحقوق الإنسان. كما أن تشيؤ الإنسان وتنميطه فى ظل توحش الرأسمالية، وضخامة أسواقها، ومحاولتها تسليع أى شىء وأى قيمة، يجرح الكرامة الإنسانية، ولذا يواجه هذا المسلك الخاطئ صداً ورداً، ونقداً وجرحاً، من قبل الأديان التى تدافع عن كرامة البشر، والجماعات والتنظيمات المناهضة للعولمة، والفلسفات الإنسانية، والنزعات الروحانية، التى راحت تنتفض ضد تسليع الإنسان، أو تحويله إلى آلة، أو مجرد رقم فى حساب لا ينتهى.
لكن البشرية عانت طيلة عهود طويلة من انتشار أفكار وتصورات نالت من الكرامة الإنسانية بطريقة جارحة وقاسية على خلفيات أيديولوجية مستمدة من أديان أو مذاهب أو أعراق أو أيديولوجيات متطرفة. وقد وصل انتهاك الكرامة مداه مع من يؤمنون بحتميات أيديولوجية لأسباب بيولوجية، مثل النازيين والفاشيين الذين زعموا أن عرقهم أرقى من بقية الأعراق، وحاولوا أن يقدموا أدلة علمية على هذا تعود إلى التكوين الوراثى الذى تحمله الجينات، مما لا يقبل التغيير. ولا تزال هناك رؤى وتصورات عنصرية تحط من شأن البعض على خلفيات الانتماءات الأولية أو الطبيعية، لكن البشر يكافحون على الدوام من أجل إنهاء هذه المشاعر وتلك السلوكيات البغيضة.
(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى)
"الوطن"