عمار علي حسن
وربطت النظرية الماركسية الأدب بالأهداف السياسية إلى أبعد الحدود، لكن البنيوية، التى ذاع صيتها فى أوروبا أواسط القرن العشرين، ذهبت إلى أقصى حد فى الاتجاه المضاد، فعارضت ما طرحته الماركسية، ومدرسة النقد الإنجليزى، على حد سواء، من أن الأدب يعطى معلومات عن المجتمع، وركزت على السمات الداخلية للنص الأدبى، رافضة أن تنظر إليه من الخارج، وتعاملت معه على أنه بناء معرفى له خصائصه الفريدة، وليس علم اجتماع، بينما كان الأمر قد وصل بالبعض إلى حد القول بأنه طالما أن الأدب يستوعب الخبرة الاجتماعية، من خلال رصده للتفاصيل الدقيقة للحياة الإنسانية، فليست هناك ضرورة لهذا العلم.
وقد لخص رومان ياكوبسون هذه النظريات الأدبية، حين اعتمد على منهج الاتصال فى قراءة النص الأدبى، مقسماً عملية إنتاج واستهلاك النص إلى (كاتب سياق/ رسالة/ شفرة قارئ)، ووزع النظريات والمذاهب الأدبية على هذا النموذج، كما يلى: (الرومانسية الماركسية/ الشكلية/ البنيوية/ النظريات المتجهة للقارئ).
فالمذهب الرومانسى يركز على عقل الكاتب وحياته، بينما تهتم الماركسية بالسياق الاجتماعى والتاريخى للنص الأدبى، فى حين تكرس الشكلية جهدها لدراسة طبيعة الكتابة نفسها بمعزل عن كل ما عداها من معطيات، وتلقى البنيوية بثقلها فى اتجاه فك الشفرات، التى يستخدمها الأدباء فى بناء المعنى.
ومن خلال مدارس النقد الأدبى، وخاصة الواقعية، ظهرت عدة مداخل لتحليل الأدب من منظور اجتماعى، ومن ثم من منظور سياسى، باعتبار السياسة ممارسة حياتية ذات طابع اجتماعى، أى ظاهرة اجتماعية، يبدو علم الاجتماع هو المخول بدراستها أكثر من غيره، وكذلك من منطلق أن الإنسان «عنصر سياسى» يتحرك فى قالب اجتماعى عام.
ويتعامل المدخل الأول مع الأدب بوصفه وسيلة لتطوير السلوك الاجتماعى، وأداة تمكننا من فهم الحياة بشكل أفضل. ويركز المدخل الثانى على تحليل مضمون النصوص الأدبية، دون الالتفات للشكل الأدبى، أو الاهتمام بالجانب الفنى، الذى يمثل معياراً للحكم على ما إذا كان النص الذى أمامنا أدباً من عدمه. ويهتم المدخل الثالث بالحياة الاجتماعية للأديب ذاته، فيتناول الأوضاع الطبقية والأيديولوجية للأدباء. ويرصد المدخل الرابع الدور الذى يقوم به «حراس المنافذ» فى الحياة الأدبية، وهم النقاد وموزعو الكتب وأصحاب دور النشر والمكتبات العامة، والسلطة السياسية، حيث يختار هؤلاء بدرجات متفاوتة ما يقرؤه الناس.
ويسلط المدخل الخامس الضوء على دراسة وضع القارئ، باعتباره متلقى النص الأدبى، الذى يلعب دوراً فى الحياة الأدبية من خلال التغذية المرتدة. وإذا كانت هذه المداخل تركز على الإطار الخارجى للنص الأدبى، أى سياقه الاجتماعى، فإن هناك «النقد الجمالى»، الذى يركز على تحليل الأعمال الأدبية من داخلها، وأدواته فى ذلك دراسة الأوزان والأساليب، والصور، والاستعارات، والرموز والأساطير، وغير ذلك.
وعموماً، لا يجب التعامل مع أى من هذه المداخل على أنه طريقة مقدسة لفهم النص الأدبى، فكل منها لم يقدم رؤية جامعة مانعة لتفسير النصوص، رغم وقوع بعض النقاد فى فخ الانبهار بواحد من هذه المداخل، مدعين أنه كفيل بمفرده بإضاءة الجوانب المعتمة من النص، أو ملء المساحات البيضاء، التى تفصل بين قصد الأديب وفهم القارئ.
وفى محاولة لتلافى العيوب، التى تنجم عن استخدام أى من هذه المداخل دون غيره، جمع بعض النقاد، الذين تعرضوا لدراسة الجانب الاجتماعى للأدب، بين الاتجاهين الأساسيين فى تفسير النص الأدبى، من خلال التأكيد على وجود منهجين لدراسة الظاهرة الأدبية، من منظور علم الاجتماع، وهما علم اجتماع الظاهرة الأدبية، الذى يمكن فيه أن تلعب الإحصاءات والاستقصاءات دوراً بالغاً فى شرح تلك الظاهرة، عبر تناول عملية إنتاج الأدب (الإبداع) واستهلاكه (التلقى)، والوسائط التى تربط بينهما (دور النشر والنقاد.. إلخ)، وعلم اجتماع الإبداع الأدبى، وموضوعه هو الخلق الجمالى، ويركز على التحليل الاجتماعى للرموز الفنية من صور وأخيلة وتركيب. وفى ضوء ذلك بات هناك اقتناع لدى العديد من النقاد بأن ثمة ضرورة لوجود توازن بين الذاتى والموضوعى فى تأويل النص الأدبى، إذ إن تغليب أحدهما على الآخر يؤدى إلى تطرف فى فهم النص، فالعمل الأدبى مرتبط بالوضعية التاريخية والاجتماعية من جهة، وبحساسية المبدع وتذوقه الجمالى من جهة ثانية.