عمار علي حسن
عمار علي حسنيمتلك التصوف ميراثاً لغوياً عميقاً وجزلاً، ينبو غالباً عن التفاصيل، ويرتفع فوق السياق الاجتماعى الذى أُنتج فيه، متجاوزاً الزمان والمكان، بما يجعله قابلاً للقراءة والتذوق والتفاعل معه من المختلفين فى الثقافات والأديان، ولذا مثّل دوماً تجربة خصبة أمام الأدباء بشتى صنوفهم، شعراء وروائيين ومسرحيين، وذلك لأن التصوف يعزف على وتر إنسانى مشترك، بل متوحد، وهو المشاعر، التى تتوزع بين الحب والكره، والخير والشر، ويتشابه الناس ويتطابقون فى هذا، ويتواشجون فى رباط متين. فعاطفة الحب مثلاً لا تختلف عند رجل أبيض عن الأسمر، وعند الأصفر عن الأحمر. ويشهد تراث الإنسانية على أن ما كان بين قيس وليلى لا يختلف أبداً عما بين روميو وجولييت.
وإلى جانب الأدب يبدو التصوف أكثر رحابة أمام الدراسات الحديثة فى فروع مختلفة من الإنسانيات، سواء بالنسبة للجوانب المجردة والنظرية، أو من خلال الممارسات والتطبيقات. فثراء التصوف على مستوى الشكل والمضمون، والمحسوس والحدسى، أو البرهان والعرفان، يفتح الباب على مصراعيه أمام الدارسين، فى اللغة والأدب والفنون والفلسفة والاجتماع والأنثربولوجى وعلم النفس والسياسة والتاريخ وغيرها. وهذه مسألة ماثلة للأذهان وواضحة للعيان نضع أيدينا عليها إن طالعنا «ببلوجرافيا» التصوف والصوفية والمتصوفة، فى لغات عدة.
ويقوم التصوف على تجربة روحية خالصة، لا تقف عند الاختلافات التى تفرضها شرائع الأديان، بل تتجاوزها إلى البحث عن الحقيقة، دون أن يعنى ذلك التنصل من فروض وأحكام تلك الشرائع، لكنها لا تنظر إليها بوصفها نهاية المطاف من الدين والتدين، بل هى مجرد وسائل لاستلهام الينابيع البعيدة للإيمان.
وينطلق التصوف من الإلهى إلى الإنسانى، ولا يُلزم نفسه بالإغراق فى التفاصيل والإجراءات التى يحفل بها الفقه واللاهوت والتقاليد والتدوينات الظاهرية لسير الأنبياء والصحابة والتابعين فى الإسلام، والحواريين والقديسين فى المسيحية، والأحبار والكهنة فى اليهودية. فمثل هذا هو ما فرّق بين أتباع الأديان رغم وحدة أصلها ومنبعها، وفتح باباً وسيعاً لطغيان البشرى على الإلهى، والتقوُّل على الوحى، ونسب إليه ما ليس منه ولا فيه ولا عنه. ومن ثم لا يملك غير التصوف قدرة على تقريب المختلفين فى العقائد والمذاهب.
وينطوى التصوف على العديد من القيم العليا النبيلة التى يحتاج إليها الناس فى كل زمان ومكان، مثل المحبة والتسامح والرضاء، وهى تصلح أن تكون أحجاراً قوية لبناء جسر متين بين أتباع الديانات والثقافات والحضارات.
ويدرك كثير من الأدباء، إلى جانب استفادتهم من لغة التصوف الثرية المفعمة بالجزالة وصوره المفارقة البديعة، أن العالم لم يكن فى مسيس الحاجة إلى التصوف، بشتى صوره ودروبه التى عرفتها الأديان جميعاً، أكثر من أيامنا تلك، حيث بلغ الظمأ الروحى أشده، ووصل التردى الأخلاقى مداه، وانطمر الوجدان تحت الاتكاء المفرط على البرهان المبنى على العقل والنقل والتجربة، وزاد تشيؤ الإنسان إلى درجة غير مسبوقة، مع توحش الرأسمالية، وانتشار ثقافة السوق، واحتدام الصراع حول المنافع والمكاسب المادية والنفوذ والجاه والمناصب، وتحول التدين إلى مجرد طقوس وأفعال مادية بحتة تؤدى بطريقة آلية لا ورع فيها ولا خشوع ولا تبصُّر أو تدبُّر، وانجذب من كان عليهم أن يرعوا الأخلاق الحميدة والفضائل إلى تحصيل السلطة، وراحوا يتخففون من الأحمال العقدية والدعوية والتربوية، وتحول أغلبهم من دعاة للدين إلى فتنة فى الدين، علاوة على هذا أخفقت كل جولات الحوار سواء على خلفية الدين أو الثقافة أو الحضارة، لأن الجميع يكتفى بالنظر تحت أقدامه. فالتصوف يمتلك القدرة على الخروج من هذه الدائرة المفرغة، ودفع الأمور قدماً، لأن جوهره وبنيته وأفكاره وتاريخه تحمل سمات تساعد على ذلك.
ومن بين هذين النقيضين يسرى التصوف كالنسيم العليل الذى يزيح أمامه غبار التكالب على مغانم الدنيا، أو النور الذى ينبثق فيبدد الظلام الحالك الذى يجثم على النفوس والأبدان. لكنه أىّ تصوف: هل هو الدروشة التى تجعل أصحابها يهيمون على وجوههم فوق الدروب والشوارع؟ أم الطرق الصوفية التى يخلط أغلبها الدين بالفلكلور والبذل بالنفع؟ أم هو الانقطاع عن الناس فى صوامع أو زوايا بذهن منصرف إلى التأمل فى الملكوت الأعلى، ولسان يلهج بالتسابيح؟
(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى).