عمار علي حسن
عمار علي حسنالرومانسية السياسية (1 - 3)الأحد 29-11-2015 | PM 10:25
1
قاد البحث عن المثل العليا إلى تبنِّى نوع من «الرومانسية السياسية»، وهى نوع من التفكير والتدبير السياسى يستلزم خيالاً خصباً، بقدر احتياجه إلى عاطفة جياشة نبيلة. ولا يقتصر وجود هذا التفكير على اتجاه سياسى أو أيديولوجيا واحدة، ففى إيطاليا كان الرومانسيون فى أغلب الأحيان من الليبراليين، فى حين أن الرومانسية ارتبطت فى ألمانيا، بوجه عام، بالتيار المحافظ، بينما سلك الرومانسيون الإنجليز سبلاً متناقضة، فهناك من دافع عن الموروث، ويوجد من كان يحرض على الحرب فى سبيل الدفاع عما يراها الحداثة والتنوير والاستقلال.
والرومانسية السياسية، فضلاً عن تجليها الأكبر فى «المدينة الفاضلة»، تتصف بعدة سمات، الأولى: المعنى المسرحى الذى يقوم على البطولة والتضحية والعظمة والدم المسفوح المرتبط بالثورات الرامية إلى إنهاء بؤس الأوضاع القائمة. والثانية: الشفقة على البسطاء والانشغال بهمومهم الاجتماعية والنفسية، ولذا تتجلى المطالبة الدائمة بعدالة توزيع الثروات، وتطبيب العوز، ومقاومة الفقر، والشفقة على الشعوب المغلوبة والانحياز إليها إن كانت تكافح فى سبيل التحرر من الاستعمار أو تقاوم الطغيان أو تواجه كوارث كبرى. والثالثة: وجود تصور عاطفى للسياسة بما يجعل النظرة إليها تختلف عن تلك التى تتعامل معها على أنها «فن الممكن» لتصبح دعوة إلى التمسك بالمثل العليا، وتهتم بالخطاب المفعم بالبلاغة، لأنها تؤمن بقوة الكلمة. والرابعة: هى النظرة الكلية للأمور، بما يؤدى إلى عدم الاكتفاء بجدولة المشكلات إنما طرحها بكل ضخامتها، ومدها عبر أرجاء الكون والتاريخ.
ولعل إريك فروم كان أيضاً يبحث عن المثل العليا حين كان ينشد «المجتمع السليم»، فى كتاب يحمل هذا العنوان، ناقش فيه مشكلة الإنسان الحديث، الذى يعانى فى مجتمع يضع كل همه فى الإنتاج الاقتصادى، ولا يعبأ بتنمية العلاقات الإنسانية الصحيحة بين أفراده، ولذا يسقط فى خلل نفسى وعقلى فى ظل غياب الاستجابة للحاجة إلى الاتصال والترابط الحميم والتفرد والتعقل، ومع الخضوع لتحكم التقنية والتنظيم اللذين جعلا الإنسان عبداً لهما.
ويبنى «فروم» حُجته هنا على فشل النظامين الرأسمالى والاشتراكى فى رد المجتمع إلى صوابه، والفرد إلى طمأنينته، ثم يبشرنا بأن حل الأزمة الإنسانية التى نعيشها تكمن فى «اشتراكية اجتماعية» جديدة تكفل للمجتمع سلامة العقل، وتحمى الفرد من أن يكون مطيّة لتحقيق أغراض غيره من الناس، وتدفعه ليكون منتجاً ومسئولاً، عبر الانشغال بالجوانب الإنسانية، وإخضاع النواحى الاقتصادية والسياسية والثقافية لغاية واحدة وهى «تنمية الإنسان».
ويقول «فروم»: «إننا فى الوقت الحاضر نقدس أوثاناً كثيرة ونعبدها، ولو آمنا بالله لحطمنا هذه الأصنام. فنحن نؤله الدولة، ونؤله فى الدول الديكتاتورية القوة، ونؤله الآلة، ونؤله فكرة النجاح فى الحياة. وفى سبيل ذلك ينفصل نشاطنا عن احتياجات نفوسنا، ونضعف فى الإنسان صفاته الروحانية، ومهما يكن من أمر، فواجب الإنسان الحر أن يستنكر عبادة هذه الأوثان، سواء كان من المؤمنين بوحدانية الله أو من دعاة دين جديد، وواجبنا أن نهتم بالجوهر دون العرض، وباللباب دون القشور، وبالخبرة دون اللفظ، وبالإنسان دون النظم، وبهذا الإجماع على استنكار عبادة الأوثان الجديدة تتألف القلوب حول عقيدة مشتركة أساسها المحبة والتواضع، والإيمان بالعالمية، والتعاليم الإنسانية فى الديانات العظمى فى الشرق والغرب، والنظر إلى الأمور بعين العقل، والاهتمام بالحياة نفسها لا بالمعتقدات والمذاهب. وبهذا الاتجاه الجديد تنشأ طقوس جديدة، وتعبيرات فنية جديدة، تؤدى إلى احترام الحياة، وتماسك الناس».