توقيت القاهرة المحلي 13:49:10 آخر تحديث
  مصر اليوم -

العلاقات المدنية العسكرية (2-2)

  مصر اليوم -

العلاقات المدنية العسكرية 22

عمار علي حسن

ولا يعنى الانحياز للحكم المدنى، الذى تثبت الأيام ضرورته، ورفض عسكرة المجال العام، نسيان أن الجيش، وقوامه الرئيسى من المجندين المدنيين، هو أحد أعمدة الدولة الحديثة فى مصر. فليس من قبيل المجاملة ولا المبالغة أن نقول إن محمد على بنى الدولة فى ركاب الجيش، إذ أدت احتياجات الأخير إلى قيام الرجل ببناء مؤسسات قامت على أكتافها الدولة الحديثة، فلكى يعالج الضباط والجنود بنى المستشفيات، وكى يعلمهم بنى المدارس، وكى يوفر لهم الغذاء والكساء، اهتم بالزراعة والصناعة.

وما فعله محمد على لم يكن جديداً على المجتمع المصرى فى تاريخه المديد، إذ إن الجيش منذ أيام الفراعنة قد لعب هذا الدور، ابتداء من تحرير مصر من الغزاة الساميين ثم توحيدها على يد «مينا»، وبعدها الحفاظ على تماسكها، وصناعة إمبراطورية مصرية صغيرة فى أيام القوة، كانت تمتد لتطوق بلاد الشام وتصل إلى قرب منابع النيل أو تذهب غرباً نحو برقة وطبرق أو فى الجنوب الشرقى تجاه الحجاز وعدن.

لهذا السبب لا يمكن من الناحية الموضوعية نكران هذا الدور التاريخى للقوات المسلحة فى الحفاظ على الدولة المصرية، لا سيما بعد أن أخذ الجيش طريقه إلى التمصير عقب ثورة 1919، الذى اكتمل تماماً بقيام ثورة يوليو 1952، التى تنص الدساتير التى أعقبتها، وحتى الآن، على أن «الجيش ملك الشعب» وتجعل «التجنيد إجبارياً» ليظل القوام الرئيسى للقوات المسلحة من المجندين المدنيين، ويظل جزء كبير من رجال مصر على قوته النظامية أو الاحتياطية، فضلاً عن أن ضباط الجيش وصف الضباط العاملين ينتمون إلى مختلف الطبقات والجهات والشرائح الاجتماعية، بما جعل الجيش متداخلاً فى الحياة الاجتماعية، أو جزءاً من النسيج الاجتماعى، على النقيض من جيوش بلدان أخرى لا سيما فى قرون مضت حيث كانوا إما مرتزقة أو مجموعات منفصلة تماماً فى طبقة مختلفة عن طبقات المجتمع. كما أن الجيش المصرى هو جيش الكل، وليس جيش طائقة ولا قبيلة مثلما هو قائم فى بعض البلدان، ولذا فإن ولاءه الأساسى للناس، وميله إليهم، ولا يستطيع أن يفعل غير هذا، لأن القيمة المركزية لديه هى «التماسك» ولو انحاز إلى السلطة ضد الشعب سيفقد هذه القيمة ويتفكك، ومن ثم لم يكن أمامه من خيار سوى الانحياز لإرادة الشعب فى ثورتى «يناير» و«يونيو».

وقد كتب كثيرون فى تحليل هذه المسألة أبحاثاً ودراسات عميقة سواء فى «علم التاريخ» أو «علم الاجتماع العسكرى» وبعض الأبحاث الخاصة بالنظم السياسية والأمن القومى والدراسات العسكرية، لعل أنصعها تلك التى كتبها المفكر المرموق د. أنور عبدالملك، والتى تمثل مرجعية مهمة فى هذا الموضوع. وكثير ممن ينتقدون توغل الجيش فى الحياة السياسية لا ينكرون هذا ولا يجهلونه، إنما يبدون حرصهم على عدم تعريض الجيش لألاعيب السياسة وتقلباتها، لما يمثله هذا من خطر داهم على البلاد، كما ينظر هؤلاء بروية وعمق إلى اختلاف الحياة المدنية عن الحياة العسكرية، فالأخيرة لها نظامها وقواعدها وتراتبها وطبيعة تفاعلاتها ومهامها المغايرة فى جوانب عديدة عن الحياة المدنية، كما أن التطور الديمقراطى فى العالم كله يميل إلى انتقال السلطة تدريجياً من عسكريين إلى مدنيين، وإن كان هذا لا يمنع عسكريين من تولى مناصب مدنية طبقاً لقواعدها، أو فى الوظائف التى تحتاج إلى خبراتهم، على أن تحدد هذا الاحتياجات المدنية، وليست سياسة المواءمات أو الترضيات، ومن دون أى استثناءات. وهناك مسألة تتعلق بميزانية الدفاع وطريقة إخضاعها لرقابة البرلمان أو جهة منبثقة عنه، وقراءتها كرقم واحد أو بالتفصيل، من دون إخلال بسريتها. وأعتقد أن هذا الأمر لا يزال يثير جدلاً لدى نخب سياسية وفكرية، ولا بد من إيجاد حل معقول ومناسب لإنهائه.

لكن الأخطر من هذا هو «عسكرة الجهاز الإدارى للدولة» رغم أنه جهاز مدنى، ولا يعود ذلك إلى رغبة الجيش أو إملاءاته، إنما هو اختيار طوعى انبثق عن اللوائح والقوانين والتشريعات التى تحكم عمل المؤسسات البيروقراطية أو شركات القطاعين العام والحكومى، والتى جعلت رئيس مجلس الإدارة يتصرف فى المؤسسة وكأنها وحدة عسكرية، فى إصدار القرارات، بل يتعداها إلى أن تكون «عزبة خاصة» كما يشاع فى الأدبيات الصحفية المصرية، فالوحدة العسكرية لها قواعد وتحكمها قوانين وتسودها حياة صارمة، لأن طبيعة مهمتها تتطلب هذا، أما انتقال هذه الروح إلى المؤسسات المدنية ليس فى الصرامة والتحكم الإيجابى إنما فى التحجر والجمود والتمسك الهائل بالفساد والفرز العسكرى للكفاءات، فهو لا شك مشكلة عميقة تحتاج إلى حل.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العلاقات المدنية العسكرية 22 العلاقات المدنية العسكرية 22



GMT 10:38 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

المايسترو

GMT 10:35 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

أندلس قاسم سليماني... المفقود

GMT 10:33 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

البراغماتيتان «الجهادية» والتقدمية... أيهما تربح السباق؟

GMT 10:31 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

... وَحَسْبُكَ أنّه استقلالُ

GMT 10:30 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

تصادم الخرائط

GMT 10:28 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

اقتصاد أوروبا بين مطرقة أميركا وسندان الصين

GMT 14:09 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

تركيا في الامتحان السوري... كقوة اعتدال

GMT 14:07 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

كيف نتعامل مع سوريا الجديدة؟

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:50 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

المجوهرات العصرية زيّنت إطلالات الملكة رانيا في 2024
  مصر اليوم - المجوهرات العصرية زيّنت إطلالات الملكة رانيا في 2024

GMT 08:38 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 08:32 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

ايجابيات وسلبيات استخدام ورق الجدران في الحمامات
  مصر اليوم - ايجابيات وسلبيات استخدام ورق الجدران في الحمامات

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:36 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : ناجي العلي

GMT 15:47 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 11:46 2024 السبت ,14 كانون الأول / ديسمبر

مبابي أفضل لاعب فرنسي في موسم 2023-2024 ويعادل كريم بنزيما

GMT 08:09 2024 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

مميزات كثيرة لسيراميك الأرضيات في المنزل المعاصر

GMT 05:00 2024 الثلاثاء ,08 تشرين الأول / أكتوبر

بوجاتي تشيرون الخارقة في مواجهة مع مكوك فضاء

GMT 05:50 2024 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

تسلا تنشر صور للشاحنة سايبرتراك باختبار الشتاء

GMT 13:06 2021 الأحد ,03 تشرين الأول / أكتوبر

منة شلبي عضو لجنة تحكيم الأفلام الطويلة بمهرجان الجونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon