عمار علي حسن
.. وقد يقول البعض إن هذا حق للعوام كفلته نصوص الدساتير، وهذا صحيح، فإذا كنا ننشد الديمقراطية فإننا يجب أن نؤمن بأحقية أى مواطن فى أن يتحرك سياسياً، من داخل المؤسسات وخارجها، ليصل إلى أبعد منصب. ويزيد هؤلاء بأن فى الدول الغربية، يتقدم بعض من ليسوا من المتبحرين فى السياسة، معرفة وممارسة، إلى النواصى، ويستشهدون على ذلك بأن الرئيس الأمريكى جورج بوش، كان فى نظر الصحافة الأمريكية قبل 11 سبتمبر بدقيقة واحدة «رئيساً بالصدفة»، وأنه حين سئل أثناء مناظرة الرئاسة الأولى عن «طالبان» قال إنها فرقة موسيقى إسبانية.
لكن من يطرح هذا الرأى ينسى أو يتناسى الفارق الجوهرى بين «عوام المقدمة» فى الغرب ونظرائهم فى بلادنا. فهناك لا ينفرد الرئيس أو الوزير بصناعة القرار واتخاذه، بل يتوجب عليه أن يراجع مؤسسات وسيطة، استشارية أو مساعدة، تضم بالطبع «النخبة» المنتقاة من الخبراء والمبرزين فى الجهاز البيروقراطى، ويتغير هؤلاء الخبراء، الرسميين وغير الرسميين، حسب طبيعة المسألة المراد البت فيها، أو اتخاذ قرار بشأنها، ثم تأتى بعد ذلك المؤسسات التشريعية لتدلى بدلوها، فى نقاش حقيقى، بحيث يصبح القرار فى خاتمة المطاف حصيلة لرأى النخبة، لا سيما إن أضفنا المؤسسات الرقابية التى يراعيها القادة السياسيون فى تصرفاتهم وقراراتهم، الداخلية والخارجية، على حد سواء.
وما سبق لا يعنى المناداة بإغلاق الباب أمام العوام فى صناعة السياسة، فمثل هذا التوجه سينتج على الفور نظماً فاشية، إنما المقصود هو أن ينتهى دور الجمهور عند اختيار من يمثلونه فى البرلمان، ومن يقودون الدولة، عبر صناديق الانتخاب، فإن أخلت النخبة الحاكمة بشروط العقد الاجتماعى المبرم بين الناس والسلطة، كان للجمهور أن يطيح بهذه النخبة، ويأتى بنخبة بديلة، لا أن يصعد هو إلى سدة السلطة ويدير دفة الأمر.
إن كثيراً من المفكرين والكتاب يخافون من الجهر باعتقادهم الراسخ فى أن «التاريخ تصنعه النخب» خوفاً من اتهامهم بالفاشية أو النازية، مثلما اتهم الغربيون جوستاف لوبون بعد طباعة كتابه الأثير «سيكولوجية الجماهير»، لكن هذه المخاوف لا تغير من الحقيقة شيئاً. فعلى مستوى الواقع لا تصعد الجماهير إلى واجهة الأحداث إلا فى فترات قليلة متقطعة، ثم تعود إلى أماكنها بعد أن تكون قد أدت الدور الذى حددته لها النخب، ليبقى الفارق بين الدكتاتورية والديمقراطية هى أن الأولى عبارة عن نخبة منبتة الصلة بالجماهير، حتى إن أظهرت عكس ذلك من خلال خطاب مزيف حول الانحياز للبسطاء أو محدودى الدخل أو المساواة بين المواطنين فى الحقوق والواجبات، أما الثانية فعبارة عن نخبة تعى مصالح الجماهير، وتسعى إلى تحقيق آمالها وتلبية احتياجاتها، لأن مستقبل هذه النخبة معلق فى أعناق العوام، أو بمعنى أدق فى أصواتهم الانتخابية، حين تحين ساعات الحسم السلمى بواسطة الاقتراعات السرية، وما أكثرها.
اليوم، وبعد طول تغييب، استيقظت النخب العربية البديلة، قبل أن تنطلق ثورات وانتفاضات، فنشأت فى مصر «الحركة من أجل التغيير» التى رفعت شعار «لا للتجديد ولا للتوريث»، وفى سوريا خرج الحقوقيون من القمقم، وطالبوا بالتغيير، دون أن يخافوا من غياهب السجون. وجرت انتخابات محلية بالسعودية فتعبد، إلى حد ما، الطريق أمام نخب غير تلك المرتبطة بالسياسة الرسمية، ومع تكرار الانتخابات الأكثر نزاهة فى تاريخ العرب، برلمانية ورئاسية، ستعزز، مع توالى التجربة ومرور الأيام، درب التعددية السياسية. وهذه الحركة المستمرة النشطة تقود إلى إحياء النخب البديلة، التى تنادى بالديمقراطية طريقاً للحكم، ومن ثم تستعيد السياسة المخطوفة من العوام.
"الوطن"