عمار علي حسن
يستعصى نص جمال الغيطانى الأخير الذى سماه «حكايات هائمة» على التصنيف حسب الأنواع الأدبية المتعارف عليها، وهو إن كان قد اعتاد التجريب مثلما رأينا فى ثلاثيته «التجليات» أو سباعيته «دفاتر التدوين»، إلا أنه فارق فى نصه الأخير المحطات التى كان قد حط فيها رحاله عبر أعماله السابقة، روايات وقصص وتأملات وسير ودراسات ومشاهدات.
فى النص الجديد نحن أمام مزيج من الإبداع الخالص والتناص الظاهر بل والاقتطاف الكامل الذى يأخذ عن الآخرين بعض أقوالهم ويضعها كما هى أو بتصرف، موزعة على فلسفات ورؤى وأساطير وحكايات متعددة، آتية من الشرق والغرب، من عند الأقدمين والمحدثين والمعاصرين، عرباً وعجماً، أوربيين وآسيويين، مما هو تحت أقدامنا وما وراء الحجب.
ولم يفُت الكاتب نفسه أن يخط لنا معالم التعامل مع نصه إذ يقول فى مستهله: «هذه حكايات هائمة فى الذاكرة، بعضها ربما تكون له أصول فى الواقع إلا أنه يصعب تحديدها، وبعضها توهم محض، المصادر المذكورة لا أصول لها، ربما فقدت إلى الأبد، وربما لا توجد إلا فى مخيلتى».
وهنا يتفاوت عطاء «الغيطانى» بين ما تنتجه قريحته الساردة، وما يختاره لنا، من حصيلة قراءاته المتنوعة، وهى مسألة يدل عليها النص ذاته حين خصص كاتبه جزءاً بعنوان «حكايات الكتب»، توالت فيه عناوين من قبيل: «كتاب الكتب» و«كتب ما لم يكتب» و«كتاب الحدائق» و«كتاب الخاص» و«ما لم يرد فى كتب» و«كتب الوصول» و«كتب وافدة» و«كتاب البحر» و«مجنون الكتب» و«كتاب الوجود».. إلخ، ليستعرض بعض ما يقرأه الآن، وهو ما يدل عليه قوله: «بعد تقاعده لزم مكتبته التى أمضى عمره فى تكوينها، يرجع الأمر إلى سنوات النشأة الأولى، عندما بدأ يكتشف روعة القراءة، وإطلاقها المخيال».
كما تتفاوت اللغة بين القديمة فى تراكيبها ومفرداتها وتصويرها للذات والمجتمع والكون، وبين معاصرة تتبسط فصاحتها إلى حد السائد والمتداول فى الحياة اليومية أو تتعقد لتصبح بعيدة عن متناول عموم الناس، مقتصرة على أفهام الخاصة، لكنها فى الحالتين لا تفقد جمالها، وتحتاج إلى قدر من التأمل والتبصر فى سبيل فك شفراتها، والوقوف على ما وراء ظاهر النص.
وهذه الطريقة سار عليها «الغيطانى» منذ روايته «الزينى بركات» التى رأت النور قبل خمسة وثلاثين عاماً، فبعدها تكرر الأمر فى أعمال مثل «اتحاف الزمان بحكاية جلبى السلطان» و«رسالة البصائر فى المصائر» وغيرهما، حيث فُتن «الغيطانى» بلغة الحكى القديمة، لا سيما تلك التى انطوى عليها كتاب ابن إياس الحنفى المصرى «بدائع الزهور فى وقائع الدهور» الذى تأثر به إلى حد عميق، ثم فتن بالنص الصوفى الذى سيطر عليه، خاصة منذ روايته «شطح المدينة». لكن «الغيطانى» أديب يعيش فى زماننا، ولم يكن بوسعه أن يهمل ما تمنحه إياه تجربته من قصص وروايات، فصور شخصيات وحكايات من زماننا، وبلغته وطريقته فى التفكير والتعبير، ومن وحى تجاربه فى الطفولة والصبا والكهولة.