تحدث الملك عبد الله الثاني عن أوراق بيد الأردن، حقوقية ودبلوماسية، يمكن أن يلجأ إليها في حال واصلت السلطات الإسرائيلية انتهاكاتها وتعدياتها على المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية في القدس ... الأمر أثار تساؤلات عديدة حول ماهية هذه الأوراق، ودرجة فاعليتها، ومتى يمكن اللجوء إليها، وما إذا كان هناك خط أحمر مُرتسم في مكان ما، لن يسمح الأردن لإسرائيل باجتيازه، تحت طائلة اللجوء إلى هذه الأوراق.
لا أحد كشف رسمياً عن “الأوراق الأردنية”، لكن سيل التكهنات لم يتوقف مع ذلك، قبل التصريحات الملكية وبعدها، بعضهم تحدث عن ورقة سحب السفير الأردني وطرد السفير الإسرائيلي، آخرون أشاروا إلى إلغاء العمل بالمشاريع الاستراتيجية في مجالي الطاقة والمياه مع إسرائيل، فريق ثالث لم يستبعد التلويح بورقة إلغاء المعاهدة، إلى غير ما هنالك من تكهنات، لا يظهر أن أي منها قد وضِع على الطاولة بعد.
كما أننا لم نعرف من قبل، ولا نعرف الآن، أين يرتسم الخط الأردني الأحمر في الأقصى والمقدسات ... وما الذي تنتظره عمان، لتقرر الشروع في إخراج أوراقها من الدرج، وقذفها في وجه الإسرائيلي ... الانتهاكات توسعت ولم تتوقف، وحبل الانتظار للخطوات التي وعد بها نتنياهو، طال واستطال، والمرجح أن هذا المسلسل الدامي، الذي ينذر باندلاع انتفاضة وطنية فلسطينية أو “حرب دينية” شاملة كما يتردد، سيتواصل ويتصاعد.
قبل الجولة الأخيرة من التصعيد الإسرائيلي في القدس، كان مسؤول أردني رفيع قد أسّر لمحدّثيه، بأن ردة الفعل الأردنية في المرة التالية التي ستُنتهك فيها بند “الرعاية الهاشمية” في المعاهدة، لن يتأخر، وسيبدأ من حيث انتهى في مرات سابقة، أي من استدعاء السفير ... ها هي جولة أشد فظاظة من الانتهاكات، تبدأ وتتواصل وتتسع، من دون أن نبدأ “التصعيد المضاد” حتى الآن، إذ باستثناء المواقف والاتصالات الدبلوماسية، لا يبدو أن ثمة خطوة عملية واحدة، قد اتخذت، ولا يبدو أن ورقة واحدة قد استلت من ملفها.
في تحليل أهمية “الأوراق الأردنية” التي يجري الحديث بشأنها، هناك انقسام بين رجالات الدولة في تقدير قيمة وأهمية كل منها: خطوة سحب السفير ليست بذات تأثير جوهري يذكر، طالما أن الاتصالات والمشاروات يمكن أن تتخطى السفير والسفارة ... المعاهدة، هناك من لا يزال يعتقد بأنها خط دفاع أول عن الأردن، وطناً وهوية وأمنا واستقراراً ... المشاريع الاستراتيجية في المياه والطاقة، قيل في تبريرها أنها ذات جدوى اقتصادية للأردن أساساً، وأن إسرائيل ليست سوى “مستفيد ثانٍ” منها، فمن ذا الذي سيقدم على إطلاق النار على قدميه، إلى غير ما هنالك من أطروحات يعج بها السجال الوطني العام.
والحقيقة أن هذا الجدل، يعيدنا إلى اليوم التالي لتوقيع الاتفاق الفلسطيني – الإردني حول الرعاية الهاشمية للمسجد الأقصى في العام 2013 ... يومها جرى تقديم الاتفاق في السياسة والإعلام، بوصفه “انتصاراً كبيراً” للأردن وإقراراً بدوره المتميز ... لم نختلف مع ذاك التقدير، وإن كنا أكثر حرصاً على لفت الانتباه إلى الأعباء والمسؤوليات التي يرتبها ذاك الاتفاق، على كاهل الدولة والقيادة الأردنيتين، منطلقين من موقع الإدراك العميق، لطبيعة التحولات التي تجري في ثنايا المجتمع والطبقة السياسية – الأمنية – الإيديولوجية الحاكمة في إسرائيل، وهذا ما نرى تداعياته وتجلياته أمام ناظرينا اليوم.
العودة للوراء غير ممكنة، وكلفتها أعلى بكثير من كلفة خوض المواجهة مع التوسعية الإسرائيلية حتى النهاية ... وهذا يدفعنا للفت الانتباه من جديد، إلى أن المواجهة الأردنية – الإسرائيلية قادمة، إن لم يكن في هذه الجولة، ففي الجولات التي ستليها، وعلينا ان نتحضر لاستخدام كافة الأوراق، لأننا قد نضطر لاستخدامها، والمرجح أننا سنضطر لاستخدامها، طالما أننا تكفلنا بالرعاية، وقررنا مواصلة إرث تاريخي ممتد لتسعة عقود من الزمان.
إسرائيل تنزاح صوب اليمين الديني والقومي الاستئصالي، هذه حقيقة لا تخطئوها العين، واليوم بالذات، يجلس المستوطنون على ربع مقاعد الكنسيت الإسرائيلي، و”الداعشية اليهودية” باتت محركاً رئيساً للسياسة والقرار والتشريع والإجراءات في دولة الاحتلال والاستيطان .... هذا هو الثابت الوحيد في المشهد الإسرائيلي، أما المتغير فيه، فيتمثل في “التكتيكات”و”المناورات” التي يمكن أن يعتمدها نتنياهو وحكومته، لشراء الوقت وتهدئة النفوس وضمان الصمت واحتواء ردات الفعل، ولا يجوز بحال من الأحوال، أن نبني سياساتنا، متوسطة وبعيدة المدى بخاصة، على “المتحوّل”، ونصرف نظر عن “الثابت” في المشهد الإسرائيلي.
لا يجوز أن نكون مقدمين على مواجهات جدية مع إسرائيل، في الوقت الذي يذهب فيه “التكنوقراط” إلى إبرام اتفاقات بعيدة المدى معها في قضايا استراتيجية، تلكم مفارقة لا يمكن استيعابها أو الأخذ بها ... ولقد آن الأوان، لكي تنطلق ردات أفعالنا على الفعل العدواني الإسرائيلي من النقطة التي انتهينا إليها في آخر جولات المواجهة، على ألا نقف عند حدودها ... آن الأوان، لنفض الغبار، عن كافة أوراق القوة التي بحوزتنا، فالمسألة لم تعد، تقتصر على التضامن مع شعب شقيق، هو الأقرب إلينا، المسألة دخلت على خط المكانة والدور والصدقية ، في زمن احتراب واصطراع، حروب الشرعيات والمرجعيات الدينية المحتدمة في الإقليم برمته.
ومثلما ذهبنا ذات يوم للقول بضرورة الأخذ بمعادلة “المعاهدة في كفة والأقصى في كفة أخرى”، اشتقاقاً من المعادلة التي وضعها الملك الراحل: “مشعل في كفة والمعاهدة في كفة”، فإننا نرى اليوم ضرورة إعادة الاعتبار لهذه المعادلة، وطرحها بصورة جدية على مختلف المنابر والمحافل، بدءاً بساسيات أكثر حزماً في مجالات “وقف التنسيق الأمني” ومحاربة التطبيع وتجريمه وتعميم ثقافة المقاطعة وتحصينها بالقوانين والإجراءات، وإطلاق يد المواطنين للتعبير عن مشاعرهم، لتأخذ التظاهرات والاعتصامات، شكل الاستفتاء العام على طبيعة العلاقة الأردنية – الإسرائيلية، مما يعزز موقع وموقف صناع السياسة والقرار.
من يتأمل في أوراق القوة التي لوّح بها الملك، يكتشف أنها ذات قيمة ووزن، ويمكن تفعيلها، شريطة أن نعي أن المواجهة، وليس التعاون، هي عنوان المرحلة المقبلة في علاقتنا بإسرائيل ... وطالما أن إسرائيل ماضية في انتهاكاتها وتجاوزاتها، فمن الأفضل للأردن،والأشرف للأردنيين، أن يتم ذلك في مناخات من القطع والقطيعة مع تل أبيب، حتى وإن اقتضى الأمر استخدام كافة الأوراق التي بحوزتنا.
وأحسب أن الآوان قد حان، لطي “ذريعة” إن المعاهدة والسفارة والعلاقات الدبلوماسية، هي طريقنا الوحيد والأوحد، لدعم الأهل والأشقاء في فلسطين، وسحبها من التداول، فأظنها لم تكن مقنعة للكثيرين، حتى أقول مقنعة لأحد، واليوم بالذات، حيث يتداول فيه الفلسطينيون، وإن لفظياً، فكرة “حل السلطة” و”إلغاء أوسلو” و”وقف التنسيق الأمني” وإعادة الاعتبار للمقاومة الشعبية، لا اظن أن أحداً يمكن أن يقبل بهكذا أنماط من التفكير والتبرير.