عريب الرنتاوي
لم يمض وقت طويل على زيارة أحمد الجربا إلى واشنطن، والتي حظي خلالها والوفد المرافق، بمراسيم وبرتوكولات شبه «رئاسية»، وانتهت إلى قرار أمريكي بتزويد المعارضة بأسلحة فتّاكة، حتى طلع علينا الرئيس الأمريكي باراك أوباما بـ «تقدير موقف» يشبه الانقلاب في السياسة الأمريكية: «لا توجد معارضة معتدلة داخل سوريا قادرة على هزيمة بشار الأسد»، موضحاً أن إدارته «استهلكت وقتاً كبيراً في العمل مع المعارضة السورية المعتدلة ، وان الرهان عليها للإطاحة بالأسد يبدو أمراً غير واقعي، وضرباً من الـ «فانتازيا».
المراقبون والخبراء، اعتبروا هذه التصريحات «نعياً» مبكراً لاستراتيجية تسليح المعارضة، والرهان على المعتدل منها، وهي الاستراتيجية التي سبق لهيلاري كلينتون أن تقدمت بها أول مرة، وكان آخر المطالبين باعتمادها، السفير الأمريكي إلى سوريا روبرت فورد، الذي عزا استقالته من منصبه، لإخفاق إدارة أوباما في تسليح «المعارضة المعتدلة».
تزويد المعارضة المعتدلة بأسلحة فتّاكة، كان على الدوام موضوعاً جدلياً وخلافياً داخل أروقة صنع القرار الأمريكي، خصوصاً حين يتصل الأمر بأسلحة «كاسرة للتوازن» من نوع صواريخ أرض جو محمولة على الكتف ... وأظهرت الإدارة الأمريكية ميلاً واضحاً للإحجام عن الأخذ بهذا الخيار، فقد «استهلكت» سنوات من الوقت والجهد في ترتيب «البيت الداخلي» للمعارضة المعتدلة من دون أن تفلح في تحقيق أي إنجاز يذكر ... أما السبب وراء هذا التردد والإحجام، فكان الخشية من انتقال هذه السلاح إلى «الأيدي الخطأ».
ما كان موضع جدال واختلاف قبل «غزة نينوى» في العاشر من حزيران الجاري، بات اليوم أمراً محسوماً، أو شبه محسوم في واشنطن، بعد أن انتقلت ترسانة الأسلحة الأمريكية الحديثة من مستودعات الجيش العراقي إلى «الأيدي الخطأ» ذاتها ... وباتت عربات «هامفي» الأمريكية، مطيّة لمجاهدي داعش متعددي الجنسيات، دع عنك بقية الطرازات من الدروع والعربات المصفَّحة والصواريخ المضادة للدبابات وأجهزة الاتصال الحديثة ومنظومات الرؤية الليلية وغيرها كثير.
ما الذي تبقى لواشنطن لمواجهة «داعش» و»النصرة» وعموم المنظمات المصنفة إرهابية، أو هي في طريقها إلى هذا التصنيف، بعد أن «نعى» الرئيس الأمريكي «المعارضة المعتدلة»؟ ... هل سنشهد مزيداً من «استهلاك» الوقت والجهد في محاولة «إحياء العظام وهي رميم»، أم أن الرئيس بتصريحه المدوّي ذاك، يريد أن يدشن صفحة جديدة في علاقة إدارته مع سوريا وحولها؟
قبل أيام، كان لنا لقاء مع وفد أوروبي زائر، يتقصى الحقائق حول سوريا ويجمعها، وكانت تصريحات أوباما الأخيرة، في قلب الأحاديث الجانبية مع أعضاء الوفد، الذين آثروا التريث والتروي في الاستنتاج، مع أنهم لم يبدو اعتراضاً واضحاً على فرضيتنا بأن الإدارة تمهد لانقلاب المواقف وتغيير السياسات؟ ... سألنا عن «سر» التزامن بين تصريحات أوباما وزيارة بثينة شعبان إلى أوسلو رغم أنها مدرجة في قوائم المشمولين بالعقوبات، ومغزى الحوارات التي أجرتها مع وزير خارجية النرويج وجيفري فيلتمان وجيمي كارتر ... لم نتلق جواباً شافياً، وأحسب أن «قلة الجواب» كانت جواباً كافيا.
طالما أن «داعش» هي التهديد للأمن والمصالح الأمريكية والأوروبية، وطالما أن انتظار المعارضة المعتدلة لتقوم بدورها في تغيير موازين القوى هو كـ «انتظار غودو»، فما الذي سيتبقى من خيارات أمام الإدارة الأمريكية، ومع من ستتعامل وتتعاون في مواجهة التهديد الأكبر على الأمن والسلم والدوليين، والمتمثل في «داعش» على حد تعبير أكثر من مسؤول غربي؟
التحليل السياسي والمنطق السليم يقولان إن واشنطن سائرة نحو التعامل والتعاون مع الأسد وجيشه وأجهزته الأمنية ونظامه، وأن المسألة ليست سوى مسألة وقت، يبدو ضرورياً لغايات تحضير المسرح واستيعاب غضب الحلفاء، فضلاً عن البحث عن سلم وشبكة أمان للهبوط على قمة الشجرة وحفظ ماء الوجه.
قبل أيام من تصريحات الرئيس أوباما، كنّا في حوار غير معد للنشر مع مسؤول أمريكي رفيع، الذي عرض أمامنا نظرية «داعش صنيعة النظام السوري»، وأبدى إعجابه بأداء المعارضة المعتدلة في مواجهة «داعش» وقوات النظام على حد سواء ... يومها أحسست لأول مرة في مناسبة من هذا النوع، أن محدثنا يعيش «حالة إنكار» أو ربما جاء من كوكب آخر ... وتساءلت جدياً عمّا إذا كانت تلك المواقف، هي فعلاً خلاصة ما يدور في أروقة صنع القرار الأمريكي، وهل هذه هي المعلومات التي تبني عليها الدولة الأعظم مواقفها وسياساتها في المنطقة؟
تصريحات أوباما بعد تلك المقابلة بأيام، أعادت تصويب الأمور ووضعها في نصابها ... وجاءت لتقول إنه لا حل عسكرياً للازمة السورية، وأن الرهان على إسقاط النظام بالقوة، هو رهان أخرق ... وأن مواجهة داعش وأخواتها، إنما يتطلب مقاربة جديدة، تجسر ما بين النظام والمعارضة المعتدلة، ولا تطيل من أمد التقاتل والتناحر الدائر فيما بينهما، حتى يتفرغ الجميع لمواجهة «تسونامي داعش» الذي أطاح أو يكاد يطيح بأكبر دولتين في المشرق العربي.
مثل هذا الكلام لا يريح المعارضة، أو بعضها على الأقل، لكن التفكير ملياً في مغزى تصريحات أوباما، يشير إلى أن الأزمة السورية سائرة على هذا الطريق، وكلما نجحت الأطراف في اختصار الجهد والوقت وأعداد الضحايا، كلما كان ذلك أفضل لسوريا والسوريين... وثمة في الأفق، ما يشي ويشير إلى أن بعض المعارضة الآخر، ممن ما زالت ضمائرهم ومصالح شعبهم، تحركهم وتحدد مواقفهم، أخذوا يفكرون جدياً بهذا المسار ... أما الذين في قلوبهم زيغ، وفي جيوبهم متسع للمزيد من الـ «بترو-دولارات»، فأولئك لا يرتجون حلاً وشيكاً للازمة السورية، يطيح بتجارتهم ويجفف مصادر رزقهم وتمويلهم وطلّاتهم الإعلامية.