عريب الرنتاوي
أحجم رئيس الحكومة العراقية عن طلب الدعم رسمياً من روسيا لتقديم غطاء جوي لقواته من جيش وحشد شعبي وقوى عشائرية لمحاربة “داعش”، مع أنه كان ألمح إلى رغبته (اقرأ حاجته) لفعل ذلك، حتى أنه قَبِل بالانخراط في “غرفة بغداد” ذات الطبيعة الاستخبارية، والتي تجمع العراق مع كل من إيران وروسيا وسوريا.
أسباب تردد، ومن ثم تراجع، الدكتور حيدر العبادي عن طلب العون الروسي عديدة، أهمها اثنان: الأول، أن الولايات المتحدة مارست على ما يبدو، ما يكفي من الضغوط عليه لعدم المجازفة بطلب الدعم الروسي، تحت طائلة تخلي واشنطن عن دعمه ودعم حكومته وقواته المسلحة ... أما الثاني، فيتعلق بالانقسامات العراقية الداخلية حيال مسألة التدخل العسكري الروسي في سوريا، واستتباعاً في العراق، حيث ترفض كتل وازنة من العرب السنة، هذا التدخل، ولا تريد للعراق أن يتورط في طلبه... ويمكننا أن نتخيّل ضغوطاً تركية وقطرية وسعودية، على أطراف عراقية، تحتفظ بعلاقات وطيدة معها، لمنع انزلاق بغداد للتحالف الروسي.
هذا التردد / التراجع، دفع بخصوم العبادي إلى تصعيد حملة الانتقادات الموجهة ضده ... هنا وجد الخصوم سبباً إضافياً للحملة على العبادي، بلغ حد وصفه بـ”العميل الأمريكي”... قبل ذلك، كان هذا الفريق من أشد المحسوبين على رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، وهو قاوم الخطط الإصلاحية التي أعلنتها الحكومة في استجابة جزئية لمطالب للحراك الشبابي المدني المدعومة من المرجعية العليا ... كما عارض هذا الفريق تشكيل وحدات شبه عسكرية للعرب السنة وأبناء العشائر، مقابل دعوات متكررة بإعطاء دور أكبر لقوات الحشد الشعبي، التي يدين قسم لا بأس منها، بولائه للمالكي.
والحقيقة أن العبادي يمارس دوره من “الموقع الأول” في النظام السياسي العراقي، على “وتر مشدود” ... فلا هو قادر على المضي في مسار الإصلاحات حتى نهاية الشوط، ولا هو قادر على استجلاب الدعم الدولي الكافي في حربه على “داعش” في ظل تفاقم الاستقطابات الإقليمية والدولية ... لكأن الرجل يسير في حقل ألغام، لا يدري متى ومن أين، سيأتيه “الانفجار التالي”.
وليس مستبعداً، بعد أن تعالت نبرة الاتهامات للعبادي بـ “العمالة” للولايات المتحدة، أن يكون الرجل في قادمات الأيام، هدفاً لسهام حادة وسامة، إذ حتى قراراته الإدارية من نوع تعيين عماد الخرسان أميناً عاماً لمجلس الوزراء، بدأت تُقرأ من قبل فريق من خصومه اليوم، حلفائه بالأمس، بوصفها جزءا من مؤامرة، يجري تحضيرها للخروج بالعراق من محور “المقاومة والممانعة” وإعادة تموضعه في المحور الأمريكي.
لكن الانتقادات من جانب حلفاء الأمس/ خصوم اليوم، ليست وحدها ما يقلق العبادي ويتهدد مستقبله السياسي، وربما حياته الشخصية ... فالولايات المتحدة، لم تظهر حتى اليوم، جدية حقيقية في دعم الرجل،وعلى مساري الإصلاح الداخلي ومحاربة “داعش” على حد سواء ... فمن بين من تصدى لإصلاحاته الداخلية، كتل ورموز عراقية مقربة من واشنطن، أما العقبات والعراقيل التي تضعها الولايات المتحدة أمام تسليح الجيش وتجهيزه بالأسلحة النوعية المتطورة، أو من خلال توفير الغطاء الجوي الفاعل لقواته، فهي أكثر من أن تعد أو تحصى ... الأمر الذي يعزز جبهة خصوم العبادي ويضعف حلفاءه.
وسوف يجد العبادي نفسه في موقع أشد حرجاً في قادمات الأيام، سيما إذا ما قُيّض لروسيا وحلفائها في سوريا، تحقيق اختراقات ميدانية هامة في الحرب على “داعش” وأخواتها، الأمر الذي سيغري الكثيرين بإجراء المقارنات بين “تدخلين”، وسيولد ضغوطاً أكبر على رئيس الحكومة، لاستدعاء التدخل الروسي رسمياً، وبكثافة.
الانقسامات في “البيت الشيعي السياسي” لا تقل عمقاً أو خطورة، عن الانقسامات بين مختلف الكيانات والمكونات العراقية ... وهي تأخذ شكالاً مختلفة، منها يتعلق بالصرعات السياسية بين الأحزاب، والشخصية بين الزعامات، والدينية بين المرجعيات، كما أنها تأخذ شكلاً “قومياً”، عربياً إيرانياً ... فلم يعد خافياً على أحد، انحياز طهران للمالكي والحشد الشعبي، ورفضها لإصلاحات العبادي، وقلقها من الحراك الشبابي – المدني، وانحيازها الأوضح للتدخل الروسي و”غرفة عمليات بغداد” الاستخبارية.
بالمجمل، يبدو العبادي سائراً على سكة تباعد مع طهران، إن هو لم يُرغم على التراجع على بنود هامة من برنامج عمل حكومته، أو يبدو كمن يقامر بمصيره الشخصي والسياسي، إن هو قرر السير على “خريطة الطرق” التي رسمها لنفسه وتعهد العمل باجتياز محطاتها المتعاقبة ... إن الرجل في وضع لا يحسد عليه، بل ربما يمكن القول، إن الرجل في وضع محفوف بالقلق والأخطار.