عريب الرنتاوي
عاد سؤال “الانتفاضة الثالثة” ليطرح من جديد، بعد المواجهات البطولية التي خاضها المقدسيون في مواجهة سلطات الاحتلال وقطعان المستوطنين، تلك المواجهات التي استثارت حملات تضامن شعبية واسعة داخل الخط الأخضر وفي الضفة والقطاع، وأعادت توجيه بوصلة الاهتمامات السياسية والإعلامية، الإقليمية والدولية، صوب القضية الفلسطينية، التي كاد غبار المعارك والحروب في سوريا والعراق، أن يغطي عليها.
والحقيقة أن سؤال “الانتفاضة الثالثة” ظل يُطرح باستمرار وعند كل مواجهة، أقله منذ أن هبّت رياح الثورات والانتفاضات العربية قبل أربع سنوات تقريباً ... وفي الوقت الذي كانت فيه بعض التقديرات المتفائلة، تنبئ بقرب اندلاع الانتفاضة الجديدة، كانت الريح تذرو هذه التقديرات بعد أيام قلائل من صدورها، وتترك أصحابها وقد اعتصرتهم مشاعر الخيبة وآلام طول الانتظار.
مع أن الظروف الموضوعية للانتفاضة الثالثة، التي لا نعرف متى ستنفجر وأي شكل ستأخذ، من أين ستنطلق أو كيف، من هي قيادتها وما هي أسلحتها وأدواتها ... بيد أن الظروف الموضوعية الكفيلة بتطوير المواجهات و”الهبّات” إلى انتفاضة شعبية عارمة، تبدو غير ناضجة، وغير متوافرة، كما كان عليه الحال منذ سنوات.
موضوعياً: بلغ صلف الاحتلال وعدوانه وغطرسته، حدوداً غير مسبوقة، حروب وغارات على قطاع غزة، استيطان زاحف على القدس والمقدسات، تدنيس للأقصى وبلوغ مخطط تقسيمه، توطئة لتهديمه، مبلغاً خطيراً ... ذل الحواجز والتفتيش والاعتقالات والمداهمات التي لا يتوقف ... حركة وطنية أسيرة تقاوم المخرز بالكف، من دون أن تحقق انتصاراً ملموساً ... عملية سلام تصل إلى حائط مسدود، ونوايا إسرائيلية مكشوفة برفض مرجعياتهاومآلاتها ... أفق سياسي مسدود، وأزمة اقتصادية – مالية – اجتماعية، تجعل حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال والحصار، شبه مستحيلة.
ذاتياً: لا شيء غير العجز والفشل و”الشيخوخة” ... سبع سنوات عجاف من الانقسام أكلت الأخضر واليابس، وأحالت الشعب الفلسطيني إلى شعوب وقبائل متناحرة ... منظمة تحرير تشكو العجز والشيخوخة المرتسمة على ملامح قياداتها ومؤسساتها ... فصائل وطنية باتت تتحرك بتثاقل (إن تحركت أساساً)، وحركة إسلامية حائرة بين خطين ومحورين وخطابين.
وعشر سنوات من محاولات بناء “الانسان الفلسطيني الجديد” في الضفة الغربية والقدس، حتى لم يعد هناك فلسطيني واحد غير مثقل بالقروض والكمبيالات، اقتصاد استهلاكي، وتنسيق أمني “مقدس” ... وخطاب “عقائدي” لا تلين له قناة، يرفض الانتفاضة والمقاومة، ويهدد كل من يفكر بهما بالويل والثبور وعظائم الأمور ... فهل أينعت جهود الجنرال دايتون والموفد طوني بلير؟ ... أم أن ما يجري تحت السطح من تفاعلات سياسية واقتصادية واجتماعية، كفيل بالإطاحة بكل هذا الركام الزائف لمظاهر “الدولة تحت الاحتلال” و”السلطة التي لا سلطة لها” والمجتمع الذي فقد انيابه وأظافره؟
ما يحصل يومياً في القدس والضفة، كفيل بإشعال شرارات “انتفاضة” جديدة، والانتفاضات التي فجّرها الشعب الفلسطيني من قبل، لم تكن أسبابها أعمق ولا أكثر جوهرية، مما يحصل الآن في القدس والخليل ورام الله والقطاع المحاصر والمجوّع... لكن الشعب الفلسطيني لا يثور، والفصائل لا تفعل شيئاً غير إصدار البيانات المعدة سلفاً لمثل هذه المناسبات المتكررة ... وبدل أن توّحد الغطرسة الإسرائيلية الشعب الفلسطيني بمختلف قواه وفصائله، تابعوا نشرات الأخبار لترون كم بلغ التهافت بالنطاقين باسم طرفي الانقسام، ففتح متآمرة وضالعة في العدوان، وحماس شريك لإسرائيل في ضرب منجزات الشعب والمنظمة والسلطة، وبعد ذلك يحدثونك عن المصالحة والمصلحة العليا، بألسنة لا تتلعثم وعيون لا يرف لها جفن، خجلاً أو حرجا.
لا أحد يريد تصعيداً، السلطة داهمتها عملية الخليل و”هبّة القدس”، وهي تتمنى أن تستفيق غداً، فترى الأمور وقد عادت إلى نصابها، والمياه إلى مجاريها ... وحماس لا تريد تصعيداً، فهي تعرف أنها معزولة أكثر من أي وقت مضى، وأن حرباً جديدة، قد لا تنتهي بالضرورة إلى خروجها من أطواق العزلة، فكثير من عواصم العرب والمسلمين، لم تعد تستشعر حرجاً من البوح بانسحابها من الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وتقديمها أعداء آخرين على “العدو الصهيوني”، كثيرون يرون في حماس والإخوان وحزب الله وإيران، أعداء ألد من إسرائيل، مُقَدّمين عليها، بل ويجيزون التعاون مع إسرائيل لمواجهة هذا “الخطر الماحق”.
ثم، أن الخشية من “مجاهيل المستقبل ومغاليقه”، هي ما يدفع قوى الأمر الواقع للاستمساك به والحفاظ عليه ... من يدري، فقد تكنس الانتفاضة بقايا السلطة العاجزة عن حماية شعبها وخدمته، بكل نظام المزايا والمنافع والامتيازات، وقد تأتي الانتفاضة بقوى تطيح بسلطة الأمر الواقع في قطاع غزة المحاصر، ومن الأفضل دائماً، الاحتفاظ بالعصفور الذي في اليد، والبحث عن مخارج وتوافقات، مفصّلة على مقاس قوى الأمر الواقع هنا وهناك ... بخلاف ذلك، لا شيء مضمون.
ما حصل في القدس، أعاد إلينا صور الانتفاضة الأولى بصفحاتها البطولية المشرقة، وكم كان ثقيلاً على النفس والعقل أن نبدي قدراً كبيراً من التشاؤم أو الحذر في إطلاق العنان للتقديرات التي تتحدث عن “انتفاضة ثالثة” تقرع الأبواب ... لكن ما العمل إزاء عناد الوقائع وصلابتها؟