عريب الرنتاوي
التسريبات حول استقالة الرئيس محمود عباس، أشعلت الجدل في الساحة الفلسطينية حول مدى جدية هذه التسريبات، وأسبابها وسياقاتها، وما قد يترتب عليها من خطوات وإجراءات وتحضيرات، تبدأ بعقد المجلس الوطني الفلسطيني الذي شُكّلت لجنة خاصة لمتابعة تشكيله وانعقاده “مصغرة جداً ومن لون واحد”، ولا تنتهي بتسريع انعقاد المؤتمر السابع لحركة فتح، فيما يشبه “ورشة العمل” التي أعدت على عجل لتأهيل البدائل وتجديد الشرعيات المنتهية صلاحياتها، على مختلف مؤسسات القيادة وصنع القرار في السلطة والمنظمة على حد سواء.
والمؤسف أن هذه الخطوات والإجراءات تأتي متأخرة جداً عن مواعيدها “الدستورية” والسياسية المقررة، وكنّا نود لو أن إجراءات نقل السلطة قد بدأت قبل بضع سنوات، حتى لا يتسبب خروج الرئيس عباس من المسرح السياسي الفلسطيني، بكثير من الإرباك والفراغات، سيما وأن الوضع الداخلي لحركة فتح، الفصيل القائد للسلطة والمنظمة، ليس على ما يرام، في ظل غياب قيادات كارزمية قادرة على توحيد الحركة، واشتداد المنافسة بين “متساويين” على خلافة الرئيس.
والمؤسف أيضاً، أن هذه الخطوات والإجراءات، لم تأت كثمرة لمراجعات سياسية حقيقة للحقبة الفائتة، والتي تميزت بفشل خيار “المفاوضات حياة” وانسداد أفق العملية السياسية، وتآكل مشروع “حل الدولتين”، فضلاً عن تفشي حالة الانقسام الداخلي واتخاذه منحى جديداً أشد خطورة، في ضوء ما يشاع عن قرب توصل حماس وإسرائيل لاتفاق “تهدئة طويلة الأمد”، تكرس مشرع فضل قطاع غزة عن الضفة الغربية، الذي لم تدخر إسرائيل وسعاً في سبيل إخراجه إلى حيز الوجود.
الأنباء والمعلومات التي يجري تداولها بخصوص المجلس الوطني الجديد والسيناريوهات التي يجري تداولها لمرحلة ما بعد الرئيس عباس، لا تدفع على الاعتقاد بأن الحركة الوطنية الفلسطينية ستكون على موعد جديد مع انعطافة (اقرأ انطلاقة) مهمة في مسيرتها ومسارها ... فغالبية أعضاء المجلس سيجري اختيارهم بالتعيين وليس بالانتخاب، في ظل غياب أي جهد تحضيري لإجراء الانتخابات في ساحات عديدة، لا يبدو أن إجراء الانتخابات فيها متعذراً ... كما أن اعتماد “المحاصصة الفصائلية” في تشكيل المجلس، انسجاماً مع “تقاليد متوارثة في تشكيل المجالس السابقة”، يبدو اليوم أشد ضرراً من أي مرحلة مضت، فالفصائل لم تعد على حالها، وكثير منها، حتى لا نقول جميعها، تحوّلت من ذخر للشعب الفلسطيني إلى عبء عليه، وبعضها لا تتعدى عضويته حمولة “الباص” الواحد، تستولي على قيادتها، رموز شاخت ولم يعد لديها ما تضيفه أو تقدمه.
لقد نشأ جيل بكامله (والجيل الآخر قيد النشوء والتشكل) من أبناء وبنات الشعب الفلسطيني في الداخل والمنافي، منذ أن تشكل المجلس الوطني والأطر القيادة وقيادات بعض الفصائل، ونحن لا نرى تمثيلاً حقيقياً لهذا الجيل في أطر المنظمة والقيادة الفلسطينية، وثمة طاقات فلسطينية هائلة، مهدورة خارج أطر العمل الوطني الفلسطيني، لأنها ببساطة، لا تجد لنفسها مطرحاً في الأطر الوطنية والفصائلية، وما لم يجر استيعاب هذه الطاقات في صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية، ما لم تجر أوسع عمليات “إعادة التأهيل” لهذه الأطر والمؤسسات، فإن الفجوة بين “الممثل الشرعي الوحيد” والشعب الفلسطيني في مناطق انتشاره واغترابه ستتسع وتتعمق، كما أننا سنشهد على “إعادة تدوير” الطبقة السياسية” الفلسطينية ذاتها، وهي المسؤولة في كليتها، عن المأزق البنيوي الذي يعتصر المشروع الوطني الفلسطيني.
والأخطر من كل ما ذكر، هو أن تجري عملية إعادة بناء المؤسسات وتجديد “الشرعيات” بصورة تكرس الانقسام وتمأسسه، بدل أن تكون خطوة لتجديد الحوار واستعادة الوحدة وتكريس المصالحة... وليس ثمة ما يشير إلى أن التحضير للمجلس الوطني الجديد الذي ستنبثق عنه مؤسسات المنظمة، يجري بالتنسيق والتشاور مع مختلف المكونات الفلسطينية، حتى أن بعض فصائل المنظمة الأساسية التي تتخذ من رام الله مقراً لها، تبدو خارج هذه العملية، فما بالك حين يتصل الأمر بحماس والجهاد الإسلامي.
لقد كان حريٌ بالقيادة الفلسطينية، ألا تدير أمر “الاستقالة” و”البدائل” و”إعادة تشكيل المؤسسات” و”تجديد الشرعيات”، بطريقة “التسريبات” أو خلف الأبواب المغلقة أو عبر الصفقات والمقايضات بين أجنحة وتيارات وفصائل العمل الوطني... مثل هذه العملية، يجب أن تُدار بكل الشفافية، ومن خلال أوسع أشكال الحوار الوطني، وبمشاركة أوسع الفئات الشعبية، داخل فلسطين وخارجها، وأن تبدأ بمراجعة المرحلة السابقة، وتقيم الأداء وتحديد المسؤوليات، وبصورة تعيد الاعتبار لمنهجية “النقد والنقد الذاتي”، لتأتي “التشكيلات” و”الإجراءات” الجديدة، منسجمة مع خلاصة ورشة العمل الوطني هذه واستنتاجاتها، خصوصاً لجهة بناء توافق وطني عريض حول استراتيجية المرحلة المقبلة، وليشعر الفلسطينيون في مختلف أماكن تواجدهم، بأنهم شركاء فعليون، في تقرير وجهة واتجاه حركتهم الوطنية وإنتاج مؤسسات ممثلهم الشرعي الوحيد التمثيلية والقيادية.