عريب الرنتاوي
لا نعرف بالضبط، ما الذي جاء به جون كيري في جولته الخاطفة إلى بغداد وعدد من عواصم المنطقة، لكننا نرجح أن يكون الرجل قد حمل في جعبته، أفكاراً ومقترحات، تدور حول العناوين والمحاور التالية:
أولاً: لا حل أمنياً للأزمة العراقية، الأمن جزء من الحل ومكوّن من مكوناته، بيد أنه ليس بديلاً أبداً عن الحل السياسي لهذه الأزمة، والذي يجب أن يسبق، وفي أبعد تقدير، أن يتزامن مع المعالجات الأمنية.
ثانياً: الحل السياسي يقوم على الأسس ذاتها التي قامت عليها العملية السياسية التي أعقبت الاحتلال الأمريكي للعراق وسقوط بغداد، والمطلوب استعادة التوازن المفقود في تمثيل مختلف المكونات، بالذات المكوّن السني، وبناء تفاهمات بين بغداد وأربيل، وبعد ذلك، يمكن للمعالجات الأمنية أن تنطلق، ويمكن لواشنطن أن تكون طرفاً فيها، لا تصور لدى واشنطن لإعادة فك وتركيب العملية السياسية، أو إعادة بناء النظام السياسي العراقي على قاعدة “دولة المواطنة المتساوية” بديلاً عن “دولة المكونات المصطرعة”
ثالثاً: الفيدرالية في صلب الدستور العراقي، الذي تم التوصل إليه تحت إشراف واشنطن وبرعايتها، والمرجح أن واشنطن لا تنظر بكثير من القلق لمطالبات أهل السنة بتدبير شؤونهم وإدارة مناطقهم، من ضمن فيدرالية سنية على شاكلة وطراز إقليم كردستان ... أكثر ما يهم واشنطن في هذا الصدد هو ألا يسقط الإقليم في أيدي “داعش” أو من هم من مدرستها، وبعد ذلك لكل حادث حديث.
رابعاً: واشنطن هي الراعية والحامية لتجربة إقليم كردستان الاستقلالية، ولها مصالح وقواعد ووجود أمني وعسكري في المنطقة، يكبر أو يصغر، وهي معنية بحفظ الإقليم، والأرجح أنها لا تنظر بعين القلق لدخول “البيشمركة” إلى المناطق المتنازع عليها، لكنها تفضل أن يتم التقرير النهائي بمصير هذه المناطق، في إطار توافقي مع بغداد، ووفقاً لآليات المادة 140 من الدستور العراقي.
خامساً: ثمة مصالح لواشنطن وحلفائها في خلق “قوس سني” يكسر “الهلال الشيعي”، ويمنع تواصله الجغرافي ... الكيان السنيّ الناشئ، حتى وإن لم يأخذ شكل الدولة المستقلة، فإنه لن يكون صديقاً لإيران أو لكل من حليفيها في دمشق والضاحية الجنوبية من بيروت ... حلفاء واشنطن من عرب وإقليميين، فشلوا في كسر الهلال الشيعي من حلقته السورية، وأخفقوا في انتزاع العراق من فلكه، فعملوا وسيعملون على قاعدة: ما يدرك كله لا يترك جله، إن لم يكن العراق برمته خارج هذا الهلال، فلا بأس من أن تكون محافظاته السنية، هي الحلقة التي يتعين كسرها.
سادساً: واشنطن القلقة من صعود داعش وانتشارها، لن تذهب إلى قتالها (من الجو بالطبع) إلا بعد أن تتأكد بأنها انتزعت من المالكي وحكومته تحت ضغط “داعش” وسطوتها، ما لم تتمكن من أخذه منهما بالمفاوضات والحوار، وهنا لن يقتصر الأمر على إعادة بعث العملية السياسية فحسب، بل ربما يجري فرض البنود التي سبق للمالكي التوقيع عليها في الاتفاقية الأمنية التي سبقت رحيل القوات الأمريكية عن العراق.
إن اطمأنت واشنطن إلى تحقيق هذه الأهداف، فإنها بلا شك سوف تمد أية حكومة عراقية جديدة، ببعض من “الترياق” الذي جاء به كيري للمنطقة، وقد تشترك مع قوات الجيش والأجهزة الأمنية العراقية في مطاردة “داعش” وحلفائها كذلك ... لكن قبل ذلك، ومن دون ذلك، ستكون الدولة الأعظم، كمن جعل من نفسه، عنصراً في فريق الأمن والحماية الخاص بالمالكي، وتكون كمن دخل في مستنقع الحرب الأهلية العراقية من بوابة مناصرة الشيعة ضد السنة والأكراد، وهذا ما لا تريد واشنطن أن تظهر بمظهره.
مثل هذه المقاربة، تثير قلق المالكي وطهران وبعض الحلفاء على حد سواء ... لذا رأينا مرشد الثورة يشن هجوماً شديداً على “الاستكبار العالمي” ويرفض بقوة التدخل الأمريكي في العراق، ورأينا المالكي يذكر رئيس الدبلوماسية الأمريكية بأنه الفائز الأول في الانتخابات، وأنه مستمسك بالاستحقاقات الدستورية، وأنه رغم حاجته للمساعدة الأمريكية، إلا أنه قادر على الجش والتجييش ومطاردة “داعش” حتى آخر متر من الحدود العراقية.
وفي ظني أن المقاربة الأمريكية الجديدة للملف العراقي، تثير ارتياحاً نسبياً متفاوتاً لدى بعض العواصم العربية، التي تراهن على رفض المالكي لمطالب كيري، وعلى التحول الأمريكي عن دعم المالكي الذي حملته واشنطن قسطاً وافراً من المسؤولية عن “الانهيار” ... والمؤكد أن هذه العواصم ستشعر بمزيد من الارتياح، إن خرج المالكي عن مسرح السياسة العراقية أو أخرج من موقعه، أقله لتعويض فشلها في إزاحة الأسد عن سدة الرئاسة السورية.