عريب الرنتاوي
كلما لاحت في الأفق بوادر انفراج على مسار الحوار والمصالحة الفلسطينيين، كلما هبت الرياح بعكس ما تشتهي السفن ... الانتخابات البلدية التي كان مزمعاً إجراؤها في الضفة الغربية وقطاع غزة في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، تحولت بسبب سوء النوايا والإدارة على حد سواء، من فرصة إلى نكسة، وباتت المصالحة، بعيدة المنال أصلاً، إثر التطورات الأخيرة، خيط دخان يطارده الحالمون والغيارى من دون جدوى.
وزاد طين المصالحة بلّةً، ما أثير على هامش مشاركة الرئيس في مراسم تشييع شمعون بيريز من جدل وانقسامات، أفقية وعامودية، طاولت فتح وأوساط السلطة، ولم تقتصر على فتح وحماس ... وتحوّل الجدل إلى “حرب دينية مصغرة” بطلها على ضفة السلطة محمود الهباش الذي قال إن محمداً عليه السلام، كان سيشارك في جنازة بيريز لو أنه ظل على قيد الحياة أو بعث حياً، في محاولة للإيحاء بأن عباس اقتفى أثر الرسول عليه السلام في رحلته من رام الله المحتلة إلى القدس المحتلة، مقابل حملة تكفيرية وتخوينية ضارية قادها على قاطع حماس، الدكتور محمود الزهار، الذي بشر عباس “اليهودي” بعذاب جهنم وبئس المصير.
وبالعودة إلى حكاية الانتخابات المحلية، نتساءل: ألم تكن السلطة، عندما قررت إجراء الانتخابات، على دراية بوضع المحاكم ومكانتها الشرعية في قطاع غزة، هل هذا تفصيل من النوع الذي يمكن أن يسقط سهواً؟ ... أم أن الحركة، او السلطة بالأحرى، صُدمت بقرار حماس المشاركة في الانتخابات البلدية لأول مرة منذ بداية الانقسام، ما أربك حساباتها، وأعاد خلط أوراقها المبنية على فرضية أن حماس ستقاطع الانتخابات كما تفعل دوماً ... كل الدلائل تشير إلى رجحان كفة التفسير الثاني، سيما إذا أخذنا بنظر الاعتبار، الوضع الداخلي المتردي والمنقسم على ذاته، الذي تعيشه حركة فتح، والذي قد يفضي بها إلى تكبد خسارة فادحة في الانتخابات.
اللجوء إلى القضاء “العادل والنزيه”، ليس سوى قرار سياسي متدثر بعباءة حقوقية، عنوانها سيادة القانون، وقرار المحكمة العليا بإجراء الانتخابات في الضفة وإرجائها في القطاع، قرار كارثي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فهو لا يكرس الانقسام فحسب، بل ويعمقه ويمأسسه كذلك ... وربما جاء قرار ما يسمى حكومة الوفاق الوطني بتأجيل انتخابات الضفة أربعة أشهر إضافية، كآخر محاولة للملمة شتات الانقسام الفلسطيني ووقف التدهور، وتفادي سيناريو الأسوأ، وإن كان هذا القرار سيفقد كل معنى ومغزى، إن لم يجر الاستفادة من الفسحة الزمنية التي يوفرها، لتكثيف الجهود من أجل حلحلة عقدة الانتخابات وإجرائها على نحو متوازٍ ومتزامن في شطري الوطن المحتل والمحاصر.
والحقيقة أننا لم نكن متفائلين لا بإجراء الانتخابات المتزامنة في موعدها، ولا بقدرة الانتخابات على تمهيد طريق المصالحة وتعبيد مسارات الوحدة الوطنية .... فالانتخابات تجري في ظل الانقسام الأعمق والأخطر في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وليس ثمة ضمانات من أي نوع، باحترام نتائج الانتخابات من قبل كلا الطرفين المتصارعين: فتح وحماس، لا في الضفة ولا في القطاع، ومثلما كانت الانتخابات المحلية تستبطن فرصة للفرج والانفراج، فقد كانت تنطوي كذلك، وربما بدرجة أكبر، على التحدي بأصعب أشكاله ودرجاته، بدلالة عمليات إسقاط قوائم فتح بالجملة في غزة، وحملات التضييق على حماس في الضفة.
الفلسطينيون أجروا انتخابات تشريعية سابقة، لم تُحترم نتائجها، وكانت سبباً في انقسامهم الأطول والأعمق، وخلال السنوات العشر العجاف الفائتة، جرت مياه كثيرة تحت الجسور، عمقت الأخاديد في جرح الانقسام الداخلي ... ولم يكن لدينا أية ضمانات من أي نوع، بأن الانتخابات البلدية، من دون توافق وطني وسياق مصالحة ورؤية مشتركة للمرحلة المقبلة، ستفضي إلى نتائج مغايرة، برغم كل الإجراءات التي اتخذتها اللجنة المركزية للانتخابات، وإقدام الجميع على توقيع ميثاق الشرف الذي عرضته على الفصائل، لاحترام الانتخابات، عملية وإجراءات ونتائج.
الانتخابات في السياق الفلسطيني المُعيّن، محلية كانت أم برلمانية ورئاسية، ضرورية لاستعادة الشرعية وتجديد النخبة وتعزيز المشاركة الشعبية، وضرورتها تنبع أساساً من قدرتها على توحيد الفلسطينيين وتجديد طاقة كفاحهم العادل والمشروع ضد الاحتلال والاستيطان والحصار والعنصرية، بيد أنها ستكون وبالاً عليهم وعلى قضيتهم، إن هي اندرجت في سياق “حروب الإخوة الأعداء”، بين فتح وحماس، أو داخل الفصيل الواحد ذاته، أو إذ هي تأسست على نظام المحاصصة الفصائلية مستثنية الطاقات الأهم والأكثر إبداعاً داخل الشعب الفلسطيني ومن خارج فصائله ... والأهم من كل هذا وذاك، ان نتائجها ستكون كارثية، إن هي كانت سبباً للانقسام ووسيلة لتعميقه وتكريسه كما هو حاصل الآن.