بقلم عريب الرنتاوي
احتفى مفكرون إسلاميون بـ “علمانية أردوغان”، كما شرحها وأوضح عناصرها في حديثه المطول الأخير لقناة الجزيرة القطرية … وقد انتشرت انتشار النار في الهشيم، المقابلات التي أجرتها وكالة أنباء الأناضول التركية، مع عدد من هؤلاء، فنشرت وأعيد نشرها على عشرات المواقع الالكترونية، الإسلامية بخاصة.
أردوغان قال إنه وحزبه جاءا بـ “مفهوم جديد للعلمانية”، والحقيقة أنه بمقدورنا القبول بهذا الادعاء طالما ظل الحديث يدور في إطار التجربة التركية – الكمالية، لكن العلمانية كما هو معروف، ليست شيئاً واحداً، فهناك علمانية معادية للدين، كما هو حال الكمالية (الأتاتوركية)، وهناك علمانيات متصالحة الأديان ولا تستعديها، بهذا المعنى، يصبح الحديث عن “مفهوم جديد” للعلمانية، ليس واقعياً البتة، فمعظم العلمانيات تقوم على احترام “معيشة كل المجموعات الدينية والفكرية بالطريقة التي يريدونها والتعبير عن أفكارهم كما يؤمنون بها، وقيام الدولة بتأمين كل المعتقدات”، على حد وصف أو تعريف أردوغان لمفهومه الجديد عن العلمانية.
وإن لم يكن حال العلمانيات الغربية كذاك الذي وصّفه أردوغان، فكيف لنا أن نفسر وجود ألوف المساجد في مدن الغرب وعواصمه، وملايين المسلمين المتجنسين بجنسيات أممه وشعوبه، وبعضهم بلغ مبلغا عظيما في سلالم الرقي والتطور، وفي مختلف مجالات السياسة والأعمال والعلوم والفكر وغيرها … كيف نفسر بقاء كل هذه الأدوار النافذة للكنائس المختلفة في تلك الدول والمجتمعات، وكيف أمكن لأتباع مختلف الديانات والعقائد، السماوية والوضعية، بمن فيهم الملحدين، أن يجدوا لأنفسهم مطرحاً محفوظاً ومكانة مأمونة في ظلال نظمٍ علمانية.
في الحقل المعرفي، لم يأت أردوغان بجديد في توصيف العلمانية، لكن الرجل وحزبه، نجحا في تقليم أظافر وتقليع أنياب “علمانية إقصائية” حكمت البلاد لأكثر من ثمانين عاماً، كان يكفي معها، أن يُزج برجل مثل أردوغان نفسه بالسجن، لمجرد تلاوته مقاطع من قصيدة تتحدث عن قبب المساجد ومآذنها، بوصفها دروعاً ورماحاً، وأن يفقد لبعض الوقت، حقوقه المدنية والسياسية، وبقية القصة معروفة بالطبع.
في ظني أن كثيرين ممن احتفوا بحديث أردوغان، لم يفعلوا ذلك تعلقاً بـ “مفهومه الجديد” للعلمانية … تلكم بضاعة قديمة متوفرة عل رفوف المكتبات وعلى صفحات الانترنت … هم احتفوا بهذا المفهوم لأسباب أخرى مختلفة تماماً، منها على سبيل المثال، أن الرجل حين تحدث عن خلفياته، جاء بحشد من أسماء المفكرين الإسلاميين حصراً، بوصفهم آبائه الروحيين، وهذا يطرب كثيرين في منطقتنا … ومنها أن الرجل إذ نجح في فك ارتهان الدين للدولة في تركيا، أو كما قيل حرفاً على لسان أكثر من مفكر إسلامي “تحرير الدين من الدولة” بخلاف العلمانية الغربية التي سعت في “تحرير الدولة من الدين”، نقول أن الرجل إذ نجح في تحرير الدين من الدولة، إنما أطلق العنان لحزبها الحاكم وكبار قادته ومؤسساته، لأن تعمل على نحو حثيث على “تديين المجتمع” بمختلف مرافقه وشرائحه، وهذا ما استثار اهتمام مفكرين إخوان وسلفيين، يؤمنون أشد الإيمان، بـ “سنة التدرج” في تطبيق الشرع والشرائع، وتوفير الظروف الملائمة لتقبل هذا الخيار بدل ممارسة الإكراه والإلزام، اللذان عادة ما ينتهيان إلى كوارث سياسية واجتماعية وقلاقل أمنية.
وبعضم ربما رحب بـ “علمانية أردوغان الجديدة” من باب أنها تندرج في سياق “نظرية التقية”، فالغرب وقوى الاستكبار العالمي لا تقبل بتولي الإسلاميين أو ذوي المرجعيات الإسلامية مقاليد الحكم في دول نافذة كتركيا، فلا بأس والحالة كهذه من “التدثر بعباءة علمانية” إلى أن تتوفر ظروف ملائمة، تجعل “الجهر” بالدعوة لـ “تديين الدولة” أمراً ممكناً، بل وخطوة تالية على تديين المجتمع.
معظم هؤلاء المفكرين، يصرون على مماثلة العلمانية بالإلحاد أو “اللادينية”، حتى في معرض تفسيرهم لعبارة أردوغان “الدين هو شأن فردي أما العلمانية فهي شأن الدولة”، فيرون أن معنى هذه العبارة، أنه يحق للفرد في الدولة أن يقول أن مسلم أو أنا يهودي أو أنا بوذي، ولكن ليس من حقه أن يقول أنا علماني، لكأنه لا يحق للمرء أن يكون مسلماً ومتديناً وعلمانياً في الوقت ذاته، ولا يحق له أن يكون بوذياً وعلمانياً أو ملحداً علمانياً … فالعلمانية بنظر هؤلاء، اختصاص حصري للدولة لا شأن للأفراد به.
وللإمعان في “شيطنة العلمانية”، حتى بقراءتها الأردوغانية المتلبسة، يصر بعض هؤلاء على القول بأن العلمانية تعني فصل الدين عن الحياة، فالأصل “أنه لا يمكن لأحد لديه الحد الأدنى من فقه التوحيد أن يقبل بالعلمانية” كما يقول أحدهم… لماذا، لأن العلمانية هي فصل للدين عن الحياة، أما ما يفعله أردوغان، فهو إعادة الدين للحياة … هنا ليس من المهم أن نصغي إلى ما يقوله أردوغان عن “علمانية جديدة” بل أن ننظر إلى ما يفعله على الأرض من تقويض لدعائم العلمانية في المجتمع ابتداء وفي الدولة لاحقاً، استناداً لـ “سنة التدرج” … هنا يمكن للبعض التفكير بإعطاء الرجل “فترة سماح” كتلك التي تعطى عادة للحكومات الجديدة، لكي يستكمل برنامج تديين المجتمع والدولة، وهنا تنعقد رهانات هؤلاء المفكرين المختفين بـ “علمانية أردوغان الجديدة”.
مرة أخرى، يصر بعض المفكرين الإسلاميين، على تقديم صورة شوهاء عن العلمانية، لأغراض معروفة، أهمها شغفهم بمفهوم الدولة الدينية، فمن قال إن جميع العلمانيات أو أكثرها، تدعو لفصل الدين عن الحياة، وهل القول بـ”حيادية الدولة” عن المجموعات الدينية والفكرية على حد وصف أردوغان نفسه، ووقوفها على مسافة واحدة من الجميع، يعني بالضرورة فصل الدين عن الحياة، ومن أين يأتي هؤلاء باستخلاصاتهم، وهل استخلاصات حقيقة أم محاولة بائسة للي عنق الحقائق الدامغة، والاتكاء على أسواء ما في تجارب العلمانيات وتعميمها؟
لكننا في المقابل، بدأنا نجد درجة أعلى من التقبل والقبول من قبل مفكرين إسلاميين، بفكرة المصالحة بين العلمانية والدين، بل واعتبار العلمانية المتصالحة مع الدين، من الإسلام ولا تتعارض مع أصول الدين، وبعضهم كتب في “علمانية الإسلام”، وأبقى أمر تديين المجتمع رهناً بـ “سنة التدرج” التي هي وجه آخر لنظرية “السياسة فن الممكن”
أردوغان وحزبه، ما زالا حتى اللحظة على الأقل، وبعيداً عن سياسة “التنقيب في النوايا” يتحدثان عن العلمانية بوصفها الصيغة الأفضل للنظام السياسي التركي، وهما تعهدا بأن الدستور الجديد للبلاد الذي يعملان عليه، سينص على علمانية الدولة، مع أن هناك أصوات داخل الحزب، وفي مواقع مسؤولة “رئيس البرلمان” تطالب بدولة دينية … لكن ممارسات الحزب والرئيس وخطابهما، لا يبعثان على الجزم بعدم حدوث انقلاب على العلمانية التركية، وعلى مراحل: المرحلة الأولى، بالانقلاب على العلمانية الكمالية الإقصائية، فهل ستتبعها مرحلة ثانية، بالانقلاب على العلمانية بكل صورها، والعودة لنمط من أنماط الدولة الدينية؟
سؤال مفتوح برسم التقلبات السريعة في المواقف والأمزجة والمصالح التي تتحكم بالرجل الذي يقود البلاد بأسلوب “one man show”.