بقلم عريب الرنتاوي
سعت أنقرة في تعظيم دورها الإقليمي على الساحات الجنوبية، في سوريا شنت عملية “درع الفرات” بهدف الوصول إلى مشارف حلب، بعد أن تكون فرضت سيطرتها على مديني الباب ومنبج، وهددت بتوسيع نطاق عملياتها الحربية غرب الفرات، بعد أن نجحت في إنشاء منطقة أمنية عازلة، تمنع قيام كيان متصل جغرافياً، وعرضت خدماتها على واشنطن لتحرير “الرقة” من داعش، شريطة ألا تشارك قوات سوريا الديمقراطية في هذه المعركة.
وفي العراق، رفضت أنقرة سحب قواتها المتمركزة في “بعشيقة”، وخاضت معارك إعلامية ودبلوماسية مع بغداد لهذا الغرض، وأكدت على ألسنة رئيسها ورئيس حكومتها ووزير خارجيتها، أنها ماضية لا محالة للمشاركة في معركة تحرير الموصل، وهددت بالتدخل عسكرياً على نطاق أوسع، إن اقتربت قوات “الحشد الشعبي” من بلدة “تلعفر”، التي يشكل التركمان العراقيون نسبة لا بأس بها من سكانها، ولتحقيق أغراضها هذه، قامت بحشد قوات كبيرة على الجانب التركي من الحدود مع العراق، استعداداً لأي طارئ أو تحسباً لأية تداعيات ستترب على طرد “داعش” من العراق.
نجحت تركيا في فرض نفسها لاعباً لا يمكن تجاوزه تماماً في كلتا الأزمتين، السورية والعراقية، وساعدها على ذلك، وجود “جيوب” أو “رؤوس جسور” لها من بين مكونات البلدين السياسية والاجتماعية … في سوريا، اعتمدت على رصيد كبير من الفصائل المسلحة التي جرى تخليقها وتدعيمها وتسليحها تحت رعاية مخابراتها، وسط حاضنة “سنيّة” لا تخفى على أحد … وفي العراق، حصل الشيء ذاته تقريباً، وإن بدرجة أقل من “التغلغل”، فهي تحتفظ بعلاقة تحالفية ملتبسة مع رئيس إقليم كردستان وحزبه، بالرغم من رفض بقية الكيانات الكردية للدور التركي، وهي تحتفظ بعلاقات تحالفية من الأخوين النجيفي، وبعض “العراقيين السنة”، وسط أجواء من العداء والكراهية للدور التركي، تعتمل في أوساط المكونات الشيعية المختلفة، والتي بلغت حد التهديد بشن حرب على الجيش التركي إن هو تورط بأكثر مما ينبغي في الأزمة العراقية.
لكن على الرغم من هذه النجاحات، فإن أكبر المعوقات التي تواجه الدور الإقليمي لتركيا على هاتين الساحتين، إنما تتمثل في “الخطوط الحمراء” الدولية التي جرى رسمها أمام حركة الجيش التركي والفصائل المحسوبة على أنقرة … في سوريا، لم تقترب هذه القوات من مدينة “الباب”، بسبب تحفظ روسي وقرار سوري إيراني، ومن المعلوم أن دخول الجيش التركي إلى سوريا، ما كان ممكنا من دون تفاهمات “جنتلمان” مع الرئيس بوتين، واستتباعاً مع حلفائه في دمشق وطهران … وفي “منبج”، جرى وقف التقدم التركي صوب المدينة التي هدد أردوغان مراراً وتكراراً باجتياحها وضمها إلى “جيبه الأمني”، والسبب يتعلق بـ “فيتو” أمريكي، يستهدف حماية حلفاء واشنطن من الأكراد وقوات سوريا الديمقراطية.
وبرغم التهديدات المتكررة بنقل المعارك إلى غرب الفرات، إلا أن تقدماً لم يطرأ على هذا الصعيد، وظلت التهديدات حبراً على ورق … كما أن واشنطن، استبعدت – كما تقول التقارير – أي دور تركي في معركة استرداد “الرقة” من “داعش” … أما في الموصل، وبرغم الادعاءات التركية المثيرة للسخرية، فقد بدا واضحاً أن تركيا استثنيت من المشاركة في هذه المعركة، كما أن قوات “الحشد الشعبي”، تقترب من “تلعفر” ومحيطها، فيما تكتفي أنقرة بالمراقبة، وكان لافتاً أن واشنطن، ومنذ بداية الأزمة بين بغداد وأنقرة، رسمت سقفاً خفيضاً للدور التركي، واشترطته بموافقة بغداد وتحت قيادة غرفة عملياتها ورئيس حكومتها، وهو أمر أكبر من أن تستطيع أنقرة ابتلاعه.
إذن، ثمة قيود وضوابط، إقليمية ودولية، أو بالأحرى، ثمة خطوط حمراء مرتسمة على الخرائط الشمالية لسوريا والعراق، يصعب على أنقرة التفكير باجتيازها، ويصعب على الدور التركي أن يتخطاها … في سوريا تم تسييج حلب و”الباب” بخط أحمر روسي، أقله حتى إشعار آخر، فيما غرب الفرات و”الرقة”، محميتان بخط أحمر أمريكي، ومتروكتان لحلفاء واشنطن من الاكراد والعشائر العربية وقوات سوريا الديمقراطية ….أما الموصل و”تلعفر”، وصولاً للحدود مع تركيا، فهي مناطق مسيجة بخطوط حمراء أمريكية، ستجد أنقره صعوبة معها في توسيع نطاق تدخلها، بل وحتى الاحتفاظ بقواتها في “بعشيقة”، بعد أن يفرغ العراق من معركته مع داعش.
مرة أخرى، يبرهن السيد أردوغان على أنه رجل “براغماتي”، يعرف حدوده ويقف عندها، ولقد رأينا ذلك من قبل في علاقاته مع موسكو وتل أبيب، ونراه مجدداً اليوم في شمالي سوريا والعراق … لكنه مع ذلك، لا يكف عن إطلاق التصريحات “العنترية” و”الرعناء”، التي تكاد تأخذ المنطقة إلى “حافة الهاوية”، رغم أنها كما يتضح في كل مرة، موجهة للداخل التركي، من أجل حشد الرأي العام وشد “العصب التركي”، وغالباً للتغطية على إجراءات تعسفية إضافية، تستهدف المعارضات التركية من كل لون وصنف، تارة تحت ذريعة تصفية “الكيان الموازي” وأخرى بحجة تصفية “الإرهاب الكردي” … تركيا تتجه تحت زعامة أردوغان إلى نمط جديد من “التوتاليتارية” المقرونة بسياسة “القوة الخشنة” في التعامل مع الجوار، بعد عشر سنوات من اعتماد سياسة “القوة الناعمة” أو “قوة النموذج” و”صفر مشاكل” وبناء تجربة فريدة من التوافق والانسجام بين الإسلام والديمقراطية (العلمانية) … تركيا تغادر حقبة في تاريخها المعاصر وتدخل حقبة أخرى، إذ بدل الاقتراب من الاتحاد الأوروبي بقيمه ومعاييره و”شروط عضويته” نراها تتكيف بتسارع مذهل، مع شروط العضوية في “نادي الشرق الأوسط” بزعامته الديكتاتورية والشمولية وأنظمة حكمه الاستبدادية الفاسدة.