بقلم عريب الرنتاوي
فجأة ومن سابق إنذار، يرتدي ثنائي اليمين الإسرائيلي المتطرف “ريش الحمام”، ويعتليان المنصة كمنافحين عن السلام و”حل الدولتين” ... نتنياهو ودّ التوضيح أنه “ملتزم بتحقيق السلام مع جيراننا الفلسطينيين ومع كل جيراننا، ومبادرة السلام العربية تتضمن مكونات حيوية يمكنها أن ترمم مفاوضات بناءة”.... وليبرمان أكمل المسرحية بقوله أنا أتفق مع كل ما قيل، بما في ذلك حل الدولتين، قبل أن يعود ليذكرنا أنه تحدث مراراً ومنذ سنوات عن “الاعتراف بدولتين: وأنه أيد بشدة خطاب بار إيلان الشهير”، والأهم أن الرجل الذي دعا بالأمس القريب لضرب “السد العالي” يرى اليوم أن “خطاب السيسي كان هاماً جداً وخلق فرصة حقيقية، ومن واجبنا أن نحاول خلع القفازات”، مكرراً بذلك ما قاله نتنياهو من فوق المنصة ذاتها بخصوص مبادرة السيسي... ولا أدري لماذا غاب “ثالثة أثافي” معسكر اليمين نفتالي بينيت عن هذا المشهد الهزلي.
بعد أربعة عشر عاماً على صدورها، يبدي نتنياهو استعداده “لإجراء مفاوضات مع الدول العربية لتحديث المبادرة (مبادرة قمة بيروت 2002)، بشكل يعكس التغييرات الدراماتيكية في المنطقة منذ العام 2002، والحفاظ على الهدف المتفق عليه لدولتين لشعبين”... أما ليبرمان، الداعي لاعتماد “أحكام الإعدام ضد الفلسطينيين”، فيرى بدوره “أن في المبادرة العربية عناصر إيجابية، تسمح بالحوار”.
موجة “الاعتدال” التي أطلقها قادة اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل، لم تترك شيئاً لـ “المعسكر الصهيوني” بقيادة الثنائي هيرتسوغ – ليفني، ولا لموشيه راز زعيم ميريتس في أقصى يسار الخريطة الحزبية الإسرائيلية... الأمر الذي أثار موجة من “التشكيك” في صدقية النوايا والتوجهات، داخل إسرائيل وبأقلام كبار المعلقين في الصحافة الإسرائيلية ... لكنها من أسف، بدأت تعطي أوكلها في الخارج، فالسيد نيكولاي مالدينوف، رأى فيها خطوة قد تساعد على إنقاذ مسار المفاوضات المتعثر، وربما إخراج العملية السياسية من غرفة العناية المشددة، وأخشى ما نخشاه، أن يتخذ بعض العرب ، تصريحات هذا الثنائي، مظلة للمضي في تطبيع علاقاتهم مع إسرائيل وتوسيعها.
أول الأسئلة التي يثيرها “إحياء المبادرة وهي رميم”، ومن قبل أقصى اليمين الإسرائيلي هذه المرة، إنما يتعلق بحقيقة الموقف الإسرائيلي من المبادرة ذاتها، هل ثمة قبول بعناصرها الأساسية بوصفها قواعد للحل النهائي، أم أننا أمام مقاربة “انتقائية” تأخذ من المبادرة ما يناسبها وتترك ما لا تريده؟
من يدقق في تصريحات الثنائي نتنياهو – ليبرمان، يرى أن المبادرة العربية بالنسبة إليهما، هي: (1) مادة للتفاوض تستوجب “التحديث”، وليست قواعد ملزمة للحل أو إطار مجدول زمنياً للحل، “لا إملاءات” ... (2) وأنها تنطوي على “عناصر إيجابية” تسمح بالحوار، وأحسب أن هذه العناصر تتركز أساساً على “تطبيع” العلاقات العربية مع العالمين العربي والإسلامي ... (3) وأن تطورات كثيرة قد جرت في المنطقة منذ إطلاقها من بيروت، يتعين أخذها بنظر بالحسبان (ولا تسمح ببحث قضيتي الجولان واللاجئين)، منها البرنامج النووي الإيراني وانتشار الإرهاب، (قاسم مشترك بين إسرائيل وعرب الاعتدال من وجهة النظر الإسرائيلية) وانهيار دول وجيوش عربية وازنة... (4) أن الموقف من المبادرة اليوم، هو ذاته الموقف منها بالأمس، هي سقف المطالب العربية وليس حدها الأدنى، وأن الكرة في ملعب الجانبين العربي والفلسطيني للهبوط بهذا السقف عند مقتضيات “نظرية الأمن الإسرائيلية” ومتطلبات الوقائع الجديدة التي فرضتها إسرائيل على الأرض.
ثاني الأسئلة، ويتعلق بالظروف التي لابست استخراجها من الأدراج الإسرائيلية العميقة، ومنها: (1) مؤتمر باريس لوزراء خارجية 29 دولة للبحث في إحياء عملية السلام و”حل الدولتين” والمنتظر يوم الجمعة القادم ... (2) تقرير الرباعية الدولية المقرر نشره قريباً والذي سيتحدث عن تهديد السياسات الاستيطانية لعملية السلام وفرص قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة ... (3) التقارير شبه المؤكدة عن نية الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وبعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، عرض تصوره للحل النهائي أو تقديمه لمجلس الأمن، أو “غض الطرف” عن مشروع قرار يدين الاستيطان ويجدد التزام المجتمع الدولي بمعايير حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والتأكيد على “حل الدولتين”، الأمر الذي يثير الكثير من المخاوف في أوساط حكومة نتنياهو التي لم تكف عن مناكفة أوباما وإدارته، حتى في عقر داره... ثنائي اليمين واليمين المتطرف، يريد أن يقطع الطريق على هذا الحراك الدبلوماسي الذي أعاد القضية الفلسطينية إلى أجندة المجتمع الدولي بعد طول غياب أو تغييب، من خلال الإيحاء بأن ثمة “خيار عربي” لحل القضية الفلسطينية، سواء من بوابة “مبادرة قمة بيروت” أو عبر “مبادرة السيسي”.
رابع هذه الأسئلة، ويتعلق بالموقف من خطاب السيسي، أو “مبادرته” ... حكومة نتنياهو بترحيبها بالمبادرة المصرية، أرادت قطع الطريق على المبادرة الفرنسية، وعندما خرجت من القاهرة وباريس مواقف تشدد على “تكامل” المبادرتين لا “تنافسهما”، جعلت من “ترحيبها” بمبادرة السيسي، مدخلاً لتعزيز العلاقات الثنائية “المزدهرة” بين إسرائيل ومصر وتكريسها، ووسيلة لامتصاص غضب الرئيس السيسي من “خديعة” نتنياهو له ... إذ في الوقت الذي راهن فيه الأول على توسيع الحكومة الإسرائيلية بضم هيرتسوغ إليها، فاجأه الثاني بالإتيان بأفيغدور ليبرمان إلى أعلى منصب عسكري وأمني في إسرائيل ... تصريحات الرجلين بخصوص أفكار السيسي تندرج في هذا السياق، وفي هذا السياق وحده.
خامس هذه الأسئلة، ويتعلق بردة فعل “عرب الاعتدال” حيال “العرض الإسرائيلي الأخير”، هل سيجدون في معسول الكلام، مظلة للمضي في تطبيع العلاقات، السائرة على قدم وساق، قبل التصريحات، والأرجح بعدها؟ ... هل سيقعون في “شرك” نتنياهو – ليبرمان؟ ... أم أنهم بحاجة لمثل هذا “الشرك” كقنبلة دخان للتغطية على الحلف الناشئ بين بعض حكوماتهم وإسرائيل، في مواجهة هلال إيران وقوس “داعش” وأخواتها... مثل هذا السؤال/ التساؤل، يبدو على قدر كبير من الأهمية، سيما وأن أطرافاً عربية عديدة، أبدت رغبتها بـ “تعديل” المبادرة و”اختزالها” بعد عامين أو ثلاثة أعوام من صدورها، وبصورة “تخففها” من بعض المطالب والحقوق العربية، الفلسطينية أساساً.
سادس هذه الأسئلة، ويتعلق بالهدف “الأخير” للتحول اللفظي في مواقف ثنائي اليمين واليمين المتطرف، وما إذا كان يستبطن رغبة حقيقة في إعطاء فرصة إضافية لخيار المفاوضات والسلام، أمرٌ يستبعده معظم الإسرائيليين، ويدرجونه في سياق المناورة والمراوغة التي اشتهر بإجادتهما نتنياهو الشهير بـ “الكذاب”، فهل تنطلي هذه الحيلة على أحد؟ ... سؤال برسم الأسابيع والأشهر القليلة القادمة.