بقلم عريب الرنتاوي
من دون سابق مقدمات أو تمهيد، جاء الموفد الأممي ستيفان ديمستورا إلى دمشق، حاملاً معه خطة من بند واحد: إدارة ذاتية لمناطق شرق حلب، نظير انسحاب مقاتلي جبهة النصرة واستعادة الأمن والاستقرار وتفعيل شرايين المساعدات الإنسانية … المصادر السورية، أوضحت أن الرجل عرض أن تتشكل من ممثلين عن أربعين فصيلا مسلحا تنتشر في أحياء شرق المدينة، في ترتيب انتقالي إلى أن تنضج شروط الحل السياسي.
لم يوضح السيد ديمستورا لمحدثيه السوريين، كيف سيخرج مقاتلو جبهة النصرة من المدينة، وكيف سينجح هو، حيث أخفقت واشنطن وأنقرة، في فصل “النصرة” عن بقية الفصائل … لكنه على ما يبدو، يريد انتزاع قبول رسمي سوري، بفكرة الإدارة الذاتية في شرق حلب، ومن ثم يشرع في تسويقها على الأطراف الحاضنة للمعارضة والنصرة والداعمة لها.
وفقاً لموسكو، فإن إخفاق واشنطن في الوفاء بالتزاماتها المتكررة، بفصل النصرة عن بقية الفصائل، كانت السبب وراء انهيار التفاهمات الروسية – الأمريكية … ووفقاً لموسكو أيضاً، فقد تم إقناع أنقرة بجدوى هذه الفكرة ضمن سياقات التنسيق الروسي – التركي المتصاعد، حتى أن أنقرة طالبت مقاتلي النصرة علناً بالخروج من شرق المدينة … كافة هذه المبادرات، قوبلت بالرفض من قبل النصرة والمسلحين على حد سواء، مثلما قوبلت بكثير من القلق والتحفظ من داعمي المعارضات السورية لاعتقادهم الجازم والمحق، بأن خروج النصرة من شرق حلب، يعني انهيار كافة جبهات المعارضة، فهي وعلى الرغم من تضارب التقديرات بشأن عديدها وعتادها، ما زالت الفاعل الرئيس على جبهات القتال هناك.
ذهبت موسكو في حديثها عن “الإخفاق” الأمريكي إلى حد توجيه الاتهام بالتواطؤ مع النصرة، بل والميل لاستخدامها من أجل تحقيق غرض إضعاف النظام وحلفائه واستنزاف روسيا … ومن هذا المنطلق، جاءت “عاصفة الأميرال كوزنستوف” مستهدفة إدلب وريف حمص الشمالي، معاقل النصرة وجغرافيا إماراتها، في رسالة لم تخف مضامينها على أحد، حتى أنها أصبحت عنوان مرحلة ما بعد حلب في الاستراتيجية السورية للكرملين.
في مثل هذه المناخات، يتساءل المراقب عن أسباب الثقة التي سكنت الموفد الأممي ودفعته لاقتراح إخراج النصرة من حلب، توطئة لإنشاء إدارة ذاتية، معترف بها من قبل دمشق، وهي إدارة لا دخل لسكان شرق المدينة في اختيارها أو تقرير عضويتها، بل ستتولى أمرها الفصائل المسلحة ذاتها، التي خرج مئات السوريين في شرق المدينة، في تظاهرات عفوية مكلفة، ضد فسادها واستبدادها، بل وضد اختطافها للمدينة وأهلها، كما أظهرت تقارير مصورة عديدة.
من حيث التوقيت، بدا لافتاً أن مبادرة ديمستورا، جاء في ذروة الاستعدادات (بل مع بدء هجوم) ذي طبيعة استراتيجية منسق، تشنه موسكو ودمشق وحلفاؤهما، لم ينحصر في جبهة شرق حلب، بل اتسع ليطال إدلب (خزان مقاتلي النصرة) وشمال حمص وصولاً للغوطة الشرقية ومناطق في الجنوب … الأمر الذي فسره مراقبون، على أنه محاولة لكبح جماح هذا الهجوم، الذي يعتقد كثيرون أنه لن يتوقف هذه المرة، قبل استعادة السيطرة على شرق المدينة، ولعل هذه هي الرسالة التي قرأها هؤلاء في عبارة ديمستورا عن “الوقت ينفد في حلب”.
على أية حال، من الواضح أن الموفد الأممي الذي اعتاد الغياب لردح طويل من الوقت، ثم الظهور في جولات ومبادرات خاوية من أي مغزى أو مضمون، يعرف أن الأزمة السورية، كما مختلف أزمات المنطقة، تمر بمرحلة انتقال، مضبوطة على إيقاع عملية الاستلام والتسليم في البيت الأبيض، بين إدارة منصرفة وأخرى قادمة … وربما آثر الرجل القيام بدور “الدوبلير” إلى أن ينتهي تحضير “البطل” لاستئناف دوره على خشبة المسرح السوري … ومن المؤكد أن السيد ديمستورا لم يبلغ به الجهل و”انعدام الصلة” حد ترجيح احتمالات القبول بمبادرته، لا من قبل النظام ولا من قبل المعارضة، ولكنه مع ذلك استمر في “وضع الحصان أمام العربة”، أقله من باب رفع العتب، وتبرئة الذمة… البعض وصف مهمة ديمستورا بالمستحيلة أو ضرباً من اللعب في الوقت الضائع، والأدق أنها لعب في الخطأ.
فمن جهة، فقدت حكاية فصل المعارضة عن الإرهاب، جاذبيتها كفكرة ومبادرة قابلة للتنفيذ، خصوصاً بعد أن أشعلت موسكو ودمشق، جبهات إدلب وريف حمص الشمالي … هؤلاء إما أن يقاتلوا جميعاً حتى النهاية، وهذا مستبعد بالنسبة لكثيرين منهم، وإما أن يخرجوا جميعاً بعد أن تدرك النصرة، أن معركتها في شرق حلب، خاسرة لا محالة … ربما هذا ما ادركته موسكو التي تخشى النصرة أكثر من خشيتها لداعش، وترى فيها “الوريث الشرعي” لفلول تنظيم الخلافة، والأهم والأخطر من وجهة نظرها، أن النصرة ما زالت تتمتع بحاضنة داخلية أفضل نسبياً، وشرايين الدعم الإقليمي لها لم تنقطع ولم تتوقف، ما استوجب صب جام غضب الأميرال كوزنتسوف على معاقلها وخزاناتها البشرية.
ومن جهة ثانية، وإلى أن تتسلم إدارة ترامب مقاليد البيت الأبيض، لن تتوفر في الأفق، بارقة أمل في استئناف مسار سياسي فاعل لحل الأزمة السورية، وهذا ما أكده الرئيس أوباما في ليما … والمؤكد أن مبادرات محلية (مصالحات، ترتيبات)، لن تكون ممكنة إذا انطوت على معان تعتقد دمشق، أن تؤسس لوضع جديد، تقر من خلالها، بتنازلها عن سيادتها على أجزاء من سوريا، وهذا ما لم يفعله النظام وهو في ذروة ضعفه وعزلته، فلماذا سيفعله الآن، وهو في لحظة تقدم على مسارات السياسة وفي الميدان؟ … لم يقبله النظام حين كانت هيلاري كلينتون ولوران فابيوس على رأس عملهما في خارجية بلديهما، فلماذا يقبله الآن، وترامب يعد بقتال لا هوادة فيه ضد الإرهاب، وتعاون غير مسبوق مع موسكو، فيما باريس تستعد لتوديع فرانسوا هولاند صاحب المواقف المتشددة من سوريا وروسيا، لاستقبال فرانسوا آخر، فرانسوا فيون صاحب المواقف المتقاربة مع مواقف ترامب حيال موسكو والأزمة السورية (والأمر لن يختلف إذا ما جاءت ماري لوبن إلى الإليزيه).
مرور الزمن لا يلعب لصالح المنظمات الإرهابية ولا الجماعات المسلحة في سوريا … حلفاء هذه الأطراف وداعموهم، يغادرون المسرح السياسي تباعاً، فيما بعضهم الآخر، يبحث عن مخارج لحفظ ماء الوجه، من ورطات ومستنقعات، وجد نفسه غارقاً فيها، من أقصى جنوب الجزيرة العربية، إلى جنوب شرق الأناضول.