في الجدل الدائر حول المناهج والكتب المدرسية الحديثة، ثمة جرعة مبالغ فيها من الاختلاق و”التطيّر” بل والابتزاز في كثيرٍ من الأحيان ... ولقد كان أجدى بكثير من معارضي التعديلات الأخيرة، أن يتوقفوا أمام هذه التعديلات بصورة موضوعية، لبيان ما انطوت عليه من تجاوز على “ثوابت الأمة”، وللبرهنة على وجاهة وصوابية وجهة نظرهم، بدل أن يتحول النقاش إلى نوعٍ من تقاذف الاتهامات، وصولاً إلى حد التهديد والتخوين والتكفير.
ما المانع على سبيل المثال، أن تُظهّر مناهجنا وكتبنا الجديدة، التعددية الأردنية، دينياً واجتماعياً وثقافياً، ألسنا أبناء وطن واحد، وجميعنا متساوون في الحقوق والواجبات، ومن حق كل منا أن يجد صورته في المنهاج وكتب التربية والتاريخ واللغة، أم أن التعددية التي نتغنى بها ليل نهار، ليس لها من وظيفة سوى المجاملة والمداهنة....بالنسبة للبعض منها، محظور أن تنتقل التعددية إلى صفحات الكتاب المدرسي، فتلكم خطيئة لا غفران لها أو من بعدها.
وما المانع أن يقدم الكتاب المدرسي “صورة متوازنة” عن نساء الأردن، تحترم أدوارهن الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المتنامية، ولا تحبسهن في “صور نمطية”، مفصّلة على مقاس فئات وشرائح ومدارس فكرية بعينها ... ما المانع أن تُظهر المناهج صورة المرأة العاملة وربة المنزل، المحجبة وغير المحجبة، المسلمة والمسيحية، أليس هذا واقع مجتمعنا بالضبط، أم أن المناهج عليها تُفَصّل على مقاس فئة أو تيار بعينه، فتعيد تشكيل وعي أجيالنا القادمة على صورتها وشاكلتها.
وما الضرر في أن تستقي المناهج والكتب المدرسية من المعارف والخبرات والأديان والثقافات الإنسانية، ما هو مشترك فيما بينها، فلا تعود القيم الإنسانية مرتبطة بدين معين فقط، وحده دون سواه، ولا تعود منظومات الأخلاق حكراً على أمة أو حقبة تاريخية أو دين معين، أليست هذه هي الترجمة لثقافة الحوار والتسامح والعيش المشترك؟ ... ألسنا بذلك نحضر أجيالنا للتعامل مع “الآخر” كما هو، وليس كما نتخيله أو “ننمطه”؟ ... أليست هذه هي المقدمة الضرورة لتأهيل النشء الجديد للتعامل مع الإنسان بصفته الإنسانية، لا بهوياتها الثانوية أياً كانت.
ثم، كيف سنترجم “رسالة عمان” التي أشبعناها غناءً وقصائد مديح، أن لم تترجم في تعريف النشء الجديد، بمعنى التعددية في الإسلام، وعدم جواز تكفير الاخر المختلف مذهبياً، والانفتاح على مختلف الطوائف والمذاهب والمدارس ... ومن قال إن ثمة “وكالة حصرية” للإسلام، عند هذا المذهب أو تلك القراءة، ألسنا بحاجة لتحصين أجيالنا القادمة، في مواجهة الإقصاء والإلغاء والخرافات والخزعبلات وحروب المذاهب ورياح التطرف والغلو؟
ثم، لماذا لا ندرس أجيالنا الفلسفة بمدارسها المختلفة، وبمنهجية علمية – موضوعية، بعيدة عن الشيطنة و”التنميط” و”المواقف القبلية المسبقة”، والانحيازات الأيديولوجية، ضيقة الأفق ... لماذا لا نترك للأجيال الفرصة لتحديد اختياراتها، ومن قال إن اختيارات جيلنا هي الصائبة، وكيف يمكن للتطور والتحديث أن يتحققا، إذا جعلنا من أنفسنا، ومن الأجيال التي سبقتنا، المعيار والمرجع لقياس الخطأ والصواب، وهل أفلحنا من قبل، وفي شتى الميادين، لكي نبرر كل هذا التشدد في إعادة انتاج أنفسنا في أجيالنا القادمة، لما لا نكتفي بالتحصين والتمكين والتربية النقدية المستقلة، ونترك للأجيال مهمة صياغة مستقبل أفضل من واقعنا البائس، وما سبقه من حقب ومراحل من الخراب والاستتباع والتخلف.
ثم، لماذا لا نختار من تراثنا ما يواكب حاضرنا ومستقبلنا، فلا نعود نلقن أجيالنا الناشئة بأن تقويم الحاكم إن أخطأ أو قارف اعوجاجاً، يكون بالسيف والرمح، بدل اللجوء إلى صندوق الاقتراع لتغييره، بوسائل سلمية، تنسجم مع حقائق العصر ولغته ومفرداته وأدواته ... وأي نوع من القداسة يراد فرضه على التراث، علماً بأن إجماع العلماء انعقد على القول بأن نسبة المقدس في هذا التراث لا تتخطى الخمسة بالمائة منه ... لماذا لا نفتح عقولنا، ونساعد أجيالنا القادمة على تفتيح عقولها، لاستيعاب المنجز العلمي والمعرفي والثقافي والحضاري لإنسان القرن الحادي والعشرين... لماذا لا نساعد الجيل القادم على القيام بالمهمة التي أخفقنا في إنجازها تحت الضغط والإكراه والابتزاز، وأعني بها مهمة تنقيح هذا التراث.
في عموم الحملة على المناهج الجديدة، نلحظ اللجوء إلى “تكتيكات الابتزاز”، تارة باسم المقدس السماوي، وأخرى تحت عنوان “المقدس الوطني أو القومي”، يُستحضر الإسلام بوصفه الضحية الأولى للتعديلات، وتستحضر القدس وفلسطين بوصفهما ضحيتاها الثانية والثالثة ... وفي كلتا الحالتين، يبتعد النقاش عن الموضوعية، وتطغى عليه الانحيازات والأجندات السياسية والفكرية والاجتماعية ... فتكون النتيجة، حوار طرشان، لن يفضي إلى مطرح.
من وجهة نظر كاتب هذه السطور، وهو يزعم بأنه تابع هذا الجدل من بداياته، فإن التعديلات التي أجريت على المناهج، ما زالت من النوع من الطفيف – التجميلي، وأننا بحاجة لما هو أبعد مما أقدمت عليها الوزارة والوزير ... نحن بحاجة لإعادة النظر لا في الكتاب والمنهج فحسب، بل وللعملية التربوية برمتها، بدءاً بـ “المنهاج الخفي”، وانتهاء بتحييد المدرسة العمومية عن المنازعات الحزبية والإيديولوجية.
من وجهة نظر كاتب هذه السطور، ليس في التعديلات الأخيرة، ما يمس المقدس على اختلاف أشكاله وصوره، لكن الحملة عليها، إنما تستهدف قطع الطريق على المزيد من الإصلاحات والتعديلات المحتملة، وأخشى ما نخشاه أن تخضع الحكومة لهذا الابتزاز ... وأذكر بأن رئيس الحكومة السابق، جوبه بحملة شعواء، وعرائض “استتابة” لمجرد أنه وصف الدولة الأردنية بالمدنية السائرة على طريق الديمقراطية ... فما الذي نريده إذا، وما الذي تريده بعض التيارات السياسية والفكرية المنغمسة في الحملة على المناهج، فهي من جهة تدعو للدولة المدنية، ومن جهة ثانية، لا تتردد عن خوض غمار حرب شعواء، لتديين الدولة والمناهج على حد سواء، فهل الدولة المدنية، هي نقيض الدولة العسكرية – الأمنية فقط، أما أنها نقيض الدولة الدينية كذلك ... أسئلة يحاذر كثيرون في تقديم الإجابات عليها، ويفضلون المناورة والمداورة للالتفات عليها، حرصاً على إخفاء “الأجندات والمناهج الخفية” التي كان لها الدور الرئيس في إشاعة التطرف في مجتمعنا، وتعزيز مواطنه، بدلالة كافة الدراسات والاستطلاعات الموضوعية والعلمية، ما نشر من نتائجها وما لم ينشر، التي تحذر من تفاقم خطر هذه الظاهرة، وما يمكن أن يترتب عليها من انعكاسات وارتدادات على “نعمة الأمن والأمان”، فهل نستيقظ قبل فوات الأوان، وننخرط في نقاش جدي وموضوعي حول حاضرنا ومستقبلنا؟