توقيت القاهرة المحلي 20:55:35 آخر تحديث
  مصر اليوم -

من «الويمبي» إلى «كوستا»... ومن علوان إلى العاصي

  مصر اليوم -

من «الويمبي» إلى «كوستا» ومن علوان إلى العاصي

بقلم : عريب الرنتاوي

من بين مقاهي شارع الحمرا الكثيرة، والموزعة على الطوائف والتيارات السياسية والفكرية والأجيال المتعاقبة، سيدخل اثنان منها التاريخ من بوابتين مختلفتين: مقهى الويمبي الذي سجلت على مقاعده سطور أول عملية فدائية للمقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي عام 1982 ... ومقهى “كوستا” الذي كان على موعد مع عملية إرهابية مجرمة، كان يمكن أن تُمزق أحشاء الشارع الشهير، وأن تُزهق أرواح العشرات من المواطنين، وأن تُطيح بمناخات التفاؤل التي أعقبت وصول الجنرال ميشيل عون إلى قصر بعبدا وسعد الدين الحريري إلى السراي الحكومية.

خالد علوان، منفذ عملية “الويمبي” الذي استعار مسدساً لأحد قادة الحزب القومي الاجتماعي السوري (عبد الله سعادة) ليستهدف برصاصاته ضباط وجنود الاحتلال الذين آثروا الاسترخاء والتمطي في واحد من أشهر مقاهي بيروت في تلك الحقبة ... موقعاً “الدورية” المترجلة بين قتيل وجريح ... خالد علوان لاذ بالفرار لمواصلة عملياته في بيروت قبل أن يستشهد بـ “نيران صديقة” أو غادرة بالأحرى، وهو قام بفعلته البطولية منفرداً، وعلى عاتقه، فاستحق أن يسمى “أسداً منفرداً”، إذ ما هي إلا أسابيع قليلة، حتى وجدت إسرائيل نفسها مرغمة على الانسحاب من ثاني عاصمة عربية يجري احتلالها.

خالد علوان، امتشق السلاح لقتال المحتلين والغزاة، لم يضرب خبط عشواء، ولم يكن “انتحارياً”، كان مقاتلاً شجاعاً، أطلق النار من مسافة صفرية على أعداء بلاده، اختار هدفه بدقة، ابتسم للشبان والصبايا في المقهى المكتظ، وارتشف قليلاً من القهوة من كوب لأحد الجالسين، غير قلق على حياة أي منهم، فهم أهله وأصدقاؤه، لا مطرح عنده للموت العشوائي والجماعي المجاني ... جاء من أجل هدف معين، اختاره بدقة، ومضى في طريقه بعد أن ترك جنود الجيش الذي لا يقهر، المزهو بتدنيسه قلب عاصمة المقاومة والثقافة والحرية والصمود، مضرجين بدمائهم.

اليوم، تبدلت الصورة واختلف المقام، ولكل زمان دولة ورجال ... شاب صيداوي، عمر العاصي (24 عاماً) ... قرر أن يضرب في قلب شارع الحمراء، مستهدفاً أبناء جلدته هذه المرة ... حمل على “وسطه”، أدوات القتل الجماعي العشوائي الجنوني، “ذئب منفرد” أو قاتل من ضمن مجموعة منظمة، لا فرق ... الموت هنا من أجل الموت وإشاعة الفوضى والخراب ... لا هدف ولا رسالة، كلما تراكمت الجثث كلما “تقرب إلى الله”، وكلما تناثرت الأشلاء، كان “الجهد مباركاً”، وكلما تسلقت الدماء جدران المدينة، كان “الثواب أعظم”... أية ثقافة سوداء هذه؟ ... وأي زمن هذا الذي يراد لنا فيه، أن نكفّر علوان ونحتسب العاصي عند الله شهيداً ... أي زمن هذا، الذي يتحول فيه “الجهاد” إلى أكبر وأقذر عملية انتحار ذاتي جماعي، يمارسها من هم محتسبين على الأمة، ومدعي النطق باسمها وتمثيلها؟
خالد علوان، حمل اسماً حركياً “ميشيل”، لم يكن هناك فرق بين ميشيل وعلي وحسين وعمر وعثمان ... الجميع منخرطون في حركة وطنية تحررية، رفعت راية العروبة والاستقلال والحرية والتحرير ... أما هذا “العاصي” فجاء رافعاً لواء التكفير، تكفير الجميع من دون استثناء، فلا أحد منّا على طريق الإسلام القويم، سوى “الفرقة الناجية”، التي هجر هؤلاء مجتمعاتهم إليها، وأعلنوا علينا حرباً لا هوادة فيها، لا تعرف التهدئات ولا الهدن، حرباً يتقربون فيها إلى الله، بقتل الرجال والنساء والشيوخ والأطفال من دون تمييز، ودائماً وسط صيحات “الله أكبر” ... أي صنف من البشر هم هؤلاء؟

لولا لطف الله وعنايته، ويقظة الأجهزة اللبنانية، لكانت بيروت على موعد جديد مع كارثة جديدة، وهي المدينة التي اكتوت بنيران السيارات المفخخة والعمليات “الاستشهادية”، تارة على يد “داعش” وأخرى على يد “طبعتها المحسنة والمنقحة”: “النصرة” ... لولا العناية الإلهية، لكانت عائلات كثيرة، تنتظر تشييع أبنائها وبناتها من مرتادي المقهى والمارين بالشارع المزدحم ... ولكانت تبخرت آمال اللبنانيين وأشواقهم، لدخول عام جديد، آمن ومستقر ومزدهر.

كلما مرت بمخيلتي مشاهد الشارع، والمقهى الذي لم يكن يبعد عن مكتبي هناك سوى بضع عشرات من الأمتار، كلما استرجعت الوجوه التي أمر بها كل صباح ومساء، لرجال وشباب وصبايا يتحدثون ويتهامسون ويقرأون صحف النهار، كلما سرت القشعريرة في عروقي ... ما ذنب هؤلاء، وكيف رأى فيهم القاتل ومشغلوه، أهدافاً مشروعة لعملياتهم الإجرامية ... كان يمكن أن أكون شخصياً في عداد الضحايا، كان يمكن أن أكون أنا أو أحد أصدقائي وزملائي وأفراد عائلتي “قرابين” لهؤلاء، لمجرد أننا نحب بيروت، ونحب أن نحتسي القهوة في مقاهيها الرصيفية، ونحب أن نفحص وجوه المارة وعابري السبيل.

أي إجرام هذا، وكيف لعقل بشري أن يسوغه ويسوقه، أن يبيعه ويشتريه ... إنه “طاعون العصر الحديث”، يلبس أقدس ثوب ليقارب أنجس الأفعال وأكثرها شيطانية وإجرامية ... لكأننا في كابوس لا نقوى على الاستيقاظ منه ... وكلما ظننا أننا نكاد نفيق ونطرد النوم عن جفوننا، فإذا بنا نصطدم بأننا إزاء واقع حقيقي معاش، ليس كابوساً ولا أضغاث أحلام ... إنه واقعنا الذي يحاصرنا من جهاتنا الأربع... وللإجرام بقية.

المصدر : صحيفة الاهرام

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من «الويمبي» إلى «كوستا» ومن علوان إلى العاصي من «الويمبي» إلى «كوستا» ومن علوان إلى العاصي



GMT 15:22 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

الفشل الأكبر هو الاستبداد

GMT 15:21 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

حافظ وليس بشار

GMT 15:17 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

سلامة وسوريا... ليت قومي يعلمون

GMT 15:06 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

التسويف المبغوض... والفعل الطيِّب

GMT 15:05 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

نُسخة مَزيدة ومُنَقّحة في دمشق

GMT 15:03 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

الشهية الكولونيالية

GMT 15:01 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

البحث عن الهوية!

GMT 13:05 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

عودة ديليسبس!

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 20:31 2018 الأحد ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

التعادل السلبى يحسم مباراة تشيلسي وايفرتون

GMT 04:44 2018 الأربعاء ,19 أيلول / سبتمبر

رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان يصل إلى السعودية

GMT 11:41 2018 الثلاثاء ,17 تموز / يوليو

شيرين رضا تكشف سعادتها بنجاح "لدينا أقوال أخرى"

GMT 09:36 2018 الأحد ,01 تموز / يوليو

دراسة تنفي وجود "مهبل طبيعي" لدى النساء
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon