بقلم عريب الرنتاوي
في زمنٍ آخر، أوقف الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات “التنسيق الأمني” مع الاحتلال وأجهزته، وإذن لقوات الأمن والشرطة الانخراط في المواجهات مع قوات الاحتلال، أوعز ويسّر أنشطةً مقاومةً للاحتلال، مع أنه لم يعلن عن ذلك علناً، ولم يلوّح بأمور كتلك، بل لطالما أكد تمسكه بأوسلو وتعهد الوفاء بالتزاماته، محمّلاً الجانب الإسرائيلي المسؤولية عن الفشل والخروقات والانهيارات.
اليوم، يمضي “التنسيق الأمني” على قدم وساق، وتحصد أجهزة الأمن الفلسطينية، شهادات حسن السلوك “الأيزو”، وتتوالى التصريحات الإسرائيلية المثمنة لحصاد هذا التنسيق وثماره، ومع ذلك، لا تكف السلطة عن التهديد والوعيد، بوقف التنسيق و”إعادة تحديد” العلاقات مع الجانب الإسرائيلي، وبصورة لم تعد تستوقف أحداً، ولا تؤخذ على محمل الجد، لا من قبل الأصدقاء ولا من طرف الخصوم.
عرفات هو من قاد مسار أوسلو، وهو الأب الروحي للسلطة الفلسطينية، ولكنه بخلاف “خليفته” محمود عباس، لم يتوقف لحظة عن الإيمان، بأن السلام يحتمل المقاومة، ولا يتناقض معها بالضرورة ... اتخذ مواقف براغماتية من الأمرين معاً، فإذا كان السلام سيفضي إلى الدولة، فلا بأس به، وإن تعذّر ذلك، بلا بأس من المقاومة، بمختلف أشكالها وصورها ... عرفات بالأمس، دفع حياته ثمناً لمحاولته الجمع بين المقاومة والمفاوضات، والفلسطينيون اليوم، يدفعون من قضيتهم، ثمن الموقف “العقائدي” المناهض للمقاومة الذي ينتهجه الرئيس عباس، وإصراره المستميت على “وحدانية” هذا الخيار، حتى بعد سلسلة الاختبارات الفاشلة المتكررة.
كان يتعين على السلطة، ومنذ زمن، أن تهبط بمستويات “التنسيق الأمني” إلى حدها الأدنى، أو وقفها إن اقتضى الأمر، ومن دون ضجيج ... وكان بمقدورها دوماً تحميل إسرائيل مسؤولية اختلال العلاقة وانفلات الأوضاع، على فرض انفلاتها ... لكن أحداً في السلطة، لا يظهر إيماناً عميقاً بالحاجة لممارسة الضغط بهذه الورقة، بل يفضلون التلويح بها، أملاً في تحريك المسار التفاوضي، لا أكثر ولا أقل ... لهذا رأينا طوفاناً من الحديث عن وقف التنسيق، أما على الأرض، فلا شيء يتغير أبداً.
وأحسب أن بعض قادة السلطة، صادقون في قولهم إن “التنسيق” حاجة فلسطينية أكثر من كونه حاجة إسرائيلية، وأحسب أن ما يقصدونه بقولهم “حاجة فلسطينية” إنما يخص حاجة السلطة للبقاء والاستقرار، بصرف النظر عن الأهداف النهائية للشعب الفلسطيني ... المهم أن تبقى السلطة وأن يبقى هؤلاء على رأسها، هذا يتطلب تنسيقاً أمنياً مع إسرائيل، وبخلافه، تنتفي مبررات وجود السلطة إسرائيلياً، ويفقد هؤلاء مواقعهم وألقابهم وامتيازاتهم ... لهذا يتصرفون بخلاف زعيم السلطة والمنظمة، الذي مهما قيل في الخلاف معه وعليه، وفي سياساته وممارساته، فقد ظلّ الرجل مسكوناً بهاجس الحرية والاستقلال والدولة والقدس ... هذا ليس حال كثير من الموظفين بدرجة قادة ومسؤولين، ممن تولوا الراية من بعده.
لسنا متفائلين بالقرارات الأخيرة للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، والتي جاءت مؤكدة على مقررات قديمة للمجلس المركزي للمنظمة ... نخشى أنها صدرت من باب تحسين شروط التفاوض حول “المنطقة أ” التي تعثرت بسبب إصرار إسرائيل على التمسك بـ “حق” جيشها في حرية التحرك داخل هذه المنطقة، وقتما شاء وكيفما شاء وحيثما شاء ... ربما هناك من يريد تحسين شروط “الصفقة” التي جرت بشأنها تفاوض كثيف بين مسؤولين أمنيين إسرائيليين وفلسطينيين، علماً بأن السلطة ما زالت على موقفها – رسمياً على الأقل- القائل برفض استئناف المفاوضات من دون جدول زمني قصير وبهدف تنفيذ الاتفاقات المبرمة لا التفاوض عليها من جديد.
ولسنا نستبعد أن تسجل هذه القناة التفاوضية “اختراقاً ملموساً في الأسابيع والأشهر القليلة القادمة .... وربما تكون “القنبلة السياسية” التي تحدثت عنها “معاريف” إنما تتعلق بمصير “المناطق أ” وربما “المناطق ب”، بموجب تقسيمات أوسلو ... عندها سيبدو التلويح بورقة “إعادة تحديد” العلاقات مع إسرائيل، كما لو أنه حقق أهدافه، ولسنا نستبعد أن يجري تصوير “الصفقة” في حال إبرامها، بوصفها إنجازاً تاريخياً، عزّ نظيره.
لو أن ثمة قناعة راسخة لدى القيادة الفلسطينية بمنهجية رفع كلفة الاحتلال، لتراجع التنسيق الأمني أو جُمّد، أو ربما أوقف منذ زمن، ومن دون إعلان رسمي، لكن في ضوء الإصرار على نظرية “المفاوضات حياة”، يبدو أن خطوات على هذا القدر من التواضع، إنما يجري إدراجها في سياق التمهيد لاستئناف المسار التفاوضي أو تحسين شروطه، لا أكثر ولا أقل، والأيام القادمة، ستظهر الحدود المتواضعة للخطوة الفلسطينية، ما لم يثبت أن تحليلنا ونبوءاتنا في غير محلها، وهو ما نرجوه مخلصين.