بقلم عريب الرنتاوي
مع كل موسم انتخابي أمريكي، تحبس كثير من العواصم العربية أنفاسها بانتظار التعرف على هوية الساكن الجديد للبيت الأبيض، ومن يحيط به من مساعدين ومستشارين، وما الذي يمكن أن يُحدثه من تغيير في اتجاهات السياسة الأمريكية، وفي أية اتجاهات ... هذه المرة، لا تبدو الصورة مختلفة بحال من الأحوال.
مع أن كثيرين من المسؤولين وصناع الرأي والقرار في العواصم ذاتها، يدركون تمام الإدراك، أن السياسة الخارجية لواشنطن، تتسم غالباً بـ “الاستمرارية”، فهي تعبير عن “مصالح ثابتة” على وجه العموم، وهي نتاج مؤسسات ومراكز قوى عديدة، وليست سياسات أفراد، خاضعة لتقلب المزاج كما هي الحال في العديد من دولنا وعواصمنا، مع أن للفرد، رئيساً أكان أم في أي موقع من مواقع صنع القرار، “أثره الخاص” في تشكيل المواقف وتلوين السياسات، حتى في أكثر الديمقراطيات تجذراً.
بهذا المعنى، يصعب القبول بالتكهنات والتقديرات التي تتنبأ بحدوث استدارات كبرى في مواقف واشنطن وسياساتها، بمجيء هيلاري كلينتون أو منافسها الإشكالي دونالد ترامب، وإن كان من الممكن التنبؤ بحدوث تغيرات تكتيكية على هذا الملف أو ذاك، وبما يستثير الرضا أو الغضب في هذه العاصمة أو تلك.
دول الخليج العربية، التي اعتادت الاستئناس بالحزب الجمهوري ومرشحيه ورؤسائه، تبدو هذه المرة في موقع مغاير، فهي تخشى المزاج المتقلب والحاد للمرشح ترامب، باعتباره رجلاً من الصعب التكهن بما سيأتي به من مواقف وتصرفات وسياسات ... وهي تفضل التعامل مع كلينتون، المقروءة جيداً في عواصمنا وعواصم العالم، سيما وأن مرشحة الحزب الديمقراطي، تنتمي إلى “تيار صقري” في الحزب، تناصب إيران عداءً اكبر، وتبدي استعداداً لتبني سياسات أكثر صدامية معها، سواء حول برنامجها النووي أو دورها الإقليمي، وهي صاحبة مواقف معروفة بتشددها ضد نظام الأسد وحلفائها، وكانت سبّاقة للقبول بالمقترح التركي فرض مناطق حظر طيران وأخرى آمنة في شمال سوريا، وتبدي استعداداً اكبر لدعم المعارضة المسلحة، وغير ذلك من مما هو معروف من مواقف لها.
أكثر ما يهم دول الخليج، هو طي صفحة باراك أوباما، الرئيس الذي وصفته بالمتردد والضعيف والانسحابي، وهو أيضاً الرئيس الذي يوصف بأنه الأكثر حدة ووضوحاً في توجيه انتقادات لدول الخليج العربية ... من المرجح ألا تشهد العلاقات الأمريكية الخليجية، مثل الفتور وانعدام الثقة اللذين شهدتهما في مرحلة أوباما، مع أن مكانة النفط، واستتباعاً الخليج في تراجع مطّرد من منظور الاستراتيجية الأمريكية.
أما المرشح الجمهوري، فهو ينطلق من نظرية “داعش اولاً”، وهو لا يمانع مواصلة السير على خطى أوباما في إرجاء ملف مستقبل الأسد إن لزم الأمر، وهو يميل إلى تلزيم روسيا بالملف السوري، وسبق له أن أطلق عبارات تنم عن استعداد أعلى للتعامل مع “القيصر” والتعاون معه في سوريا، وهو أعلن مراراً بأن سيُدَفع دول الخليج العربية تكاليف أي عمل عسكري أمريكي للدفاع عن أمنها، داخل حدودها ومياهها، او بعيداً عنها في سوريا وغيرها ... هنا يلقى الجمهوري ترامب قبولاً أعلى في موسكو ودمشق، ما يجده في الرياض وأبو ظبي – ربما.
فلسطينياً، لا يخفى على أحد أن السيدة هيلاري كلينتون، تبدو الأكثر التصاقاً باللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، والأكثر إسرافاً في التعبير عن التأييد المطلق وغير المشروط لإسرائيل وأمنها وتفوقها ... ترامب لا يختلف كثيراً عنها، بيد أنه أقل اعتمادية على اللوبي اليهودي، وهو صرح بمواقف تلحظ الحاجة لمراعاة أفضل لمصالح الفلسطينيين وحقوقهم، كشرط لنجاح الولايات المتحدة للقيام بدور الوسيط في عملية سلام الشرق الأوسط.
الحرب على الإرهاب، هي أيضاً من العناوين المهمة للمصالح الأمريكية الثابتة في المنطقة، إلى جانب النفط وإسرائيل، وحول هذه النقطة بالذات، لا يبدو أن ثمة تبايناً جوهرياً بين المرشحين حيال هذه المسألة، كلاهما يظهر عزما وحزماً على ملاحقة داعش والمنظمات الإرهابية، وكلاهما سيقترح تكثيف الضربات العسكرية الأمريكي لمصادر الإرهاب، من دون التورط في حرب شاملة، او إرسال جنود على الأرض، الخلافات قد تنحصر في التكتيكات والأدوات والتحالفات لا أكثر.
الملاحظ أن قضية “نشر الديمقراطية وحقوق الانسان” تحتل مكانة باهتة جداً على جداول الأعمال الشرق أوسطية للمرشحين كليهما، في امتداد واضح لموقف أمريكي (غربي عموماً) متراجع تماماً عن هذا المطلب، سيما بعد الخيبات التي انتهى إليها ما بات يعرف بـ “الربيع العربي”.
يبقى أن نشير إلى أن الحديث عن “القضايا العربية في برامج مرشحي الرئاسة الأمريكية”، يأتي في زمن تتراجع فيه مكانة الإقليم برمته في الاستراتيجية الأمريكية، وانتقال ثقل التركيز الأمريكي من الشرق الأوسط والخليج وشمال أفريقيا، على آسيا وحوض الباسيفيك، بصورة عامة، وفي وقت تبدو فيه قضية فلسطين وصراع العرب مع الإسرائيليين، في أدنى سلم الاهتمامات الأمريكية، بل والاهتمامات الدولية والإقليمية.