توقيت القاهرة المحلي 20:55:35 آخر تحديث
  مصر اليوم -

"تركيا التي في خاطري"

  مصر اليوم -

تركيا التي في خاطري

بقلم : عريب الرنتاوي

ثمة في الغرب من يعتقد أن تركيا التي ظلت طوال النصف الثاني من القرن الفائت، تتحول من أن تكون "رصيداً للعالم الحر" إلى عبء عليه ... ومن حليف موثوق وعضو فاعل في حلف شمال الأطلسي، إلى مصدر تهديد للأمن والاستقرار ... ومن مشروع عضو في "النادي الأوروبي"، إلى عضو فاعل في المنظومة "الأوراسية" ومعاهدة شنغهاي ... ومن دولة مسلمة، نجحت في العشرية الأولى من القرن العشرين في المزاوجة بين الإسلام والعلمانية والديمقراطية، إلى دولة إسلامية، مدججة بخطاب الكراهية المذهبي ... ومن مشروع "نموذج" لطريق التحول الديمقراطي في المنطقة برمتها، يعتمد "القوة الناعمة" أو "قوة النموذج" إلى دولة "شرق أوسطية" من الطراز الذي عرفته المنطقة طول أربعين أو خمسين سنة فاتت، وبامتياز.

خلاصة القول، أن تركيا التي عرفها العالم، كخليط من كل هذا وذاك، وكقوة إقليمية صاعدة ورائدة في قيادة العالم الإسلامي نحو ضفاف الحرية والديمقراطية والتنمية، تركيا هذه لم تعد قائمة، بل أنها تكاد تطوي صفحة التحولات "الكمالية" الكبرى التي شهدتها سياسياً واقتصادياً، لتفتح صفحة "أردوغانية" جديدة، لم نتعرف على كامل ملامحها بعد.

قد تنطوي قراءة كهذه على قدر من "التعجل"، وقد تحمل أبعاداً استشرافية محتملة ... تركيا في مرحلة انتقال صعبة، فقد داهمتها "تحولات الربيع العربي الكبرى" وما صاحبها وأعقبها من "فوضى إقليمية شاملة"، وهي ما لمّا تزل بعد، في طور انتقالي، وتختبر لأول مرة في تاريخها، قيادة ذات مرجعية إسلامية، من طراز مختلف ... والأهم من كل هذا وذاك، أن تجربة السنوات الست الأخيرة، شهدت عودة الحرب الباردة إلى العلاقات الدولية، بأشكال وأنماط شتى، في النظام العالمي الجديد، لا يكاد يستقر على قواعد صلبة أو راسخة، وكل ذلك أصاب تركيا في مقتل، وقطع عليها طريق تطورها الطبيعي والمتدرج.

لكن أهم ما يتهدد تركيا وسيقرر مستقبلها، هو "تحديات الداخل" ... فالدولة التي شهدت سنوات من الصعود الاقتصادي المذهل (المعجزة الاقتصادية)، تواجه اليوم خطر فقدان مكاسب العشرية الأولى، وبدل أن تلتحق تركيا بنادي "الثمانية الكبار" عشية احتفالات بالمئوية الأولى للجمهورية، كما تعهد بذلك رجب طيب أردوغان، تبدو مهددة بفقدان عضوية "نادي العشرين" ... ولا تلوح في الأفق بوادر تعافي اقتصادي، وفقاً للخبراء، الذين يسخر معظمهم من "استراتيجيات" الزعيم التركي لحل مشكلتي ارتفاع معدل البطالة وانخفاض أسعار العملة الوطنية.

فهو كما هو معلوم، دعا الشركات التركية لتوظيف عامل تركي إضافي واحد على الأقل في كل منها، بما ينهى أزمة البطالة... وطالب الأتراك، بتحويل مدخراتهم من الذهب والعملات الصعبة إلى الليرة التركية، لتعزيز صمودها في مواجهة ضغط سلة العملات الأخرى ... إجراءات بيروقراطية، تتناسب مع "شخصية" الزعيم، بيد أنها لا تجد لنفسها مطرحاً في علوم الاقتصاد والمالية العام ونظريات السوق.

والتهديد الآخر الذي ينتظر تركيا، إنما يتجلى في المسألة الكردية، التي انفجرت على نحو غير مسبوق في العامين الأخيرين، ليس بسبب صعود الكيانية الكردية في كل من سوريا والعراق فحسب، بل وجراء نزعة المقامرة التي تميز بها أداء الرئيس التركي، الذي فضل أن يشعل حرباً على أكراد بلاده والإقليم، على احتمال اضطراره لتشكيل حكومة ائتلاف وطني مع أحزاب أخرى، فضل أن يستحضر كل ما في القاموس القومي – الديني من مفردات للتجييش ضد "أتراك الجبل" على أن يفقد فرصته في تشكيل الحكومة منفرداً، والحصول على الأغلبية المريحة لتعديل النظام السياسي التركي، من برلماني إلى رئاسي مطلق الصلاحيات.

والتهديد الثالث، إنما يتأسس على ردود الأفعال الاجتماعية على ارتفاع منسوب "الخطاب المذهبي" المعتمد من الحزب والرئيس، الذي يتطلع بدوره إلى زعامة العالم الإسلامي وقيادته، وربما القيام بدور "الخليفة المعاصر"، أو السلطان الأكبر ... إذ بصرف النظر عن كلفة هذا الخطاب الباهظة على الإقليم، وخصوصاً سوريا والعراق، إلا أن كلفته على "وحدة تركيا وسلامة أراضيها ونسيجها الاجتماعي" ستكون أكبر بكثير، فبعد أن عانت البلاد لأكثر من أربعين عاماً، من حرب تركية – كردية، يبدو أنها ستكون بصدد التعامل "مسألة علوية" قيد التشكل، فضلاً عن ضيق المدرسة العلمانية بارتفاع منسوب "تديين" الدولة والسياسة والحياة العامة في البلاد.

أما التهديد الرابع، فيتجلى في نجاح الحزب والرئيس الكارزمي، في إعادة صياغة الحياة العامة ومؤسسات الدولة، وتفتيت قلاع العلمانية "الأتاتوركية"، فلا الجيش التركي، بقي على حاله، ولا القضاء التركي ظل على عهده، ولا الإعلام في أحسن حال، في بلد تحول إلى أكبر سجن للصحفيين في العالم، فضلاً عن إعادة فك وتركيب المدرسة والجامعة الوطنيتين، في حملة منهجية شاملة، أقرب ما تكون "للمكارثية" ضد الخصوم على اختلاف مرجعياتهم، ومن دون تمييز، ودائماً تحت ذريعة محاربة "الكيان الموازي".

التهديد الخامس، الذي هو حاصل جمع كافة التهديدات السابقة، فيتمثل في نجاح الرئيس والحزب الحاكم، في خلق قواعد اجتماعية، ريفية في الغالب، متحالفة مع طبقة رجال الأعمال المقربة من صناع القرار، عريضة وتشكل ما لا يقل عن 35 -40 بالمائة من السكان، مشبعة بالخطاب الديني والقومي على حد سواء، كفيلة بإنتاج وإعادة انتاج "الأردوغانية" حتى إشعار آخر.

لا يعني ذلك بالطبع، أن تركيا فقد قدرتها على مقاومة هذه التحولات، فلا يزال في البلاد مؤسسات مدنية وأحزاب وملايين الأتراك الذين يتطلعون للحرية والديمقراطية، ما زالت للعلمانية مواقع وقواعد، تسعى في مقاومة طوفان الأردوغانية الجارف، ومستقبل تركيا، يتوقف على قدرة هؤلاء على المقاومة، وقدرة المجتمع الدولي على احتواء مغامرات السيد أردوغان، سيما وأن تركيا كغيرها، وربما أكثر من غيرها، باتت تكتوي بنيران هذه التغيرات، من الحرب الأهلية الدائرة في جنوب شرق البلاد، إلى خطر الإرهاب الذي تسلل إلى الحلقة المقربة من الرئيس، فضلاً عن بقية المتاعب والتهديدات التي أتينا على ذكرها، والتي يعد بالإمكان تفسيرها أو تبريرها اعتماداً على "نظرية المؤامرة" الرائجة في تركيا اليوم، كما لم يحصل من قبل، وكما لا يحصل في أي بلد في العالم.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تركيا التي في خاطري تركيا التي في خاطري



GMT 01:22 2023 الأربعاء ,23 آب / أغسطس

الشيخ وجدي والشيخ حسني

GMT 01:14 2023 الإثنين ,24 تموز / يوليو

تركيا اليوم... الصديقة

GMT 00:03 2023 الجمعة ,30 حزيران / يونيو

حرب أوكرانيا غيّرت العالم... وستُغيّر روسيا

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 20:31 2018 الأحد ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

التعادل السلبى يحسم مباراة تشيلسي وايفرتون

GMT 04:44 2018 الأربعاء ,19 أيلول / سبتمبر

رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان يصل إلى السعودية

GMT 11:41 2018 الثلاثاء ,17 تموز / يوليو

شيرين رضا تكشف سعادتها بنجاح "لدينا أقوال أخرى"

GMT 09:36 2018 الأحد ,01 تموز / يوليو

دراسة تنفي وجود "مهبل طبيعي" لدى النساء
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon