بقلم عريب الرنتاوي
يحيط الغموض بتفاصيل الاتفاق الروسي الأمريكي حول سوريا، موسكو تدعو واشنطن للكشف عن الاتفاق وتظهيره بقرار عن مجلس الأمن الدولي ... حلفاء واشنطن يطلبون الإحاطة بمضمون الاتفاق ...واشنطن تدير ظهرها لهذه المطالبات، وتتذرع بالقول إن حفظ “سرية” الاتفاق ربما يكون شرط نجاحه، سيما بوجود “متربصين” كثر، بالهدنة والتهدئة والعملية السياسية.
من وجهة نظر روسية، يبدو أن الامتناع الأمريكي عن كشف الاتفاق وتحويله إلى مجلس الأمن، إنما يعود إلى تردد واشنطن وربما إخفاقها في الوفاء بالتزامها بفك ارتباط الفصائل “المعتدلة” عن الفصائل الإرهابية ... وفي ظني أن هذا الاتهام ينطوي على قدر كبير من الصحة، فعقدة الفصل بين معتدلي المعارضة وإرهابييها، باتت أشد تعقيداً من عقدة بقاء الأسد أو رحيله ... وربما لهذا السبب بالذات سيتعين على جون كيري، صانع الاتفاق مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، أن يتحرك على دوائر ثلاث متداخلة وشديدة التعقيد، إن هو أراد للاتفاق أن ينتقل إلى حيز التنفيذ:
الدائرة الأولى؛ وتتمثل في مؤسسات ومراكز صنع القرار الأمريكي في واشنطن، والتي يبدو أنها لا تقرأ من الكتاب ذاته، فلكل منها أولوياته وحساباته، وما يرتضيه كيري قد لا يقبل به البنتاغون أو البيت الأبيض أو الكونغرس و”السي آي إيه” ومختلف جماعات الضغط ومراكز التأثير ... كيري بحاجة لبناء توافق أمريكي – أمريكي قبل أن ينتقل إلى مستوى آخر في العمل والتحرك.
الدائرة الثانية؛ وتتمثل في حلفاء واشنطن الإقليميين، الذين احتفظوا طوال سنوات الأزمة السورية الخمس الفائتة، بمسافة واضحة عن واشنطن ... على جون كيري أن يقنع نظرائه في السعودية وتركيا وقطر بجدوى الاتفاق وجديته، فهذه الدول هي من رعى ومول ويسّر وسلح ودرب الجماعات المسلحة، ولكل منها أجندته في سوريا والإقليم، وهيهات أن تلتقي على استراتيجية واحدة، ولقد اتضح في مختلف مراحل ومفاصل الأزمة السورية، أن لكل منها حسابات تلتقي وتفرق مع حسابات الآخرين، ومن بينهم الولايات المتحدة.
الدائرة الثالثة؛ وتتمثل في الفصائل المسلحة ذاتها ... هنا على واشنطن أن تدخل في دهاليز “الميكرو”، فتشرع في سجالات قد تنتهي وقد لا تنتهي مع عشرات الفصائل والمجاميع المسلحة، ذات الولاءات الاستخبارية المختلفة، وذات المرجعيات السياسية والإيديولوجية المتباينة ... هنا يتعين التعامل مع “شبكة مصالح معقدة” لأمراء الحرب والطوائف والمحاور والإمارات التي تشكلت في تحت جنح الحرب في سوريا وعليها، وترتبط مع بعضها البعض بشبكة من المصالح المتوافقة والمتنافسة، والتي تتخذ شكل الاندماجات والائتلافات حيناً وشكل الصراعات المسلحة وحروب الإلغاء الاقتلاع والتكفير في كثير من الأحيان.
حتى الآن، جل ما فعلته واشنطن أنها سلمت موسكو قائمة بأسماء المنظمات التي تعتبرها معتدلة ويجب تفادي التعرض لعناصرها ومواقعها ومناطق نفوذها ... لكنها لائحة صماء، لا تتضمن مناطق الانتشار ولا أعداد القوات ولا إحداثيات المواقع ولا خريطة التحالفات ولا أسماء القادة وعناصر الاتصال ... ما يعني أنه ما يزال يتعين على جون كيري فعل المزيد، لإنهاء دوائر تحركه الثلاث، قبل أن يتقدم خطوة جدية على طريق تنفيذ الاتفاق.
ومن أجل تبرير المماطلة والتغطية عليها، لا بأس من إبقاء الاتفاق قيد الكتمان، ولا بأس من الاستمرار في كل الاتهامات للجانب الآخر بعدم احترام التزاماته، بل ولا بأس من إشاحة النظر عن خروقات بعض الفصائل المحسوبة على واشنطن وحلفائها، ولا بأس من إعطاء بعض الوقت، لمؤسسات صنع القرار الأمريكي خصوصاً البنتاغون والسي آي إيه، لاختبار خياراتهما، حتى وإن أدى ذلك، إلى انهيار ما وصفه جون كيري نفسه، بأنه آخر فرصة للحل السياسي في سوريا.