أسقط قانون الاجتماعات العامة لسنة 2011 شرط الحصول على موافقة أمنية مسبقة، لتنظيم اجتماع عام (ندوة، مؤتمر ورشة عمل، تظاهرة أو اعتصام)، واكتفى بالإشعار أو “العلم والخبر”، مشترطاً أن يتم تبليغ الجهات المختصة (المحافظ في هذه الحالة) قبل 48 ساعة من موعد الاجتماع، على أن يتضمن الإشعار تعريفاً بالنشاط وأسماء وعناوين المنظمين، عنوان النشاط وطبيعته وأهدافه ومكان وزمان التئامه.
وقد عُدّ هذا القانون بمثابة تطور مهم في الحياة السياسية والديمقراطية الأردنية، مستوحى من مناخات “الربيع العربي” في مرحلة ازدهاره، ومن أجواء الحراك الشبابي والشعبي الأردني، وأدرج في سياق المبادرات التي طرحتها الدولة من ضمن “خطة الاستجابة” لمتطلبات الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي، ومن ضمنها لجنة الحوار الوطني والتعديلات الدستورية التي طالت ثلث الدستور.
منذ ذلك التاريخ، جرت مياه كثيرة في نهر الأردن وأنهار المنطقة جميعها ... انتكس الربيع العربي، وتراجع مسار الحريات في الأردن، ويمكن القول إن القانون المذكور، بات ضحية التراجعات التي شهدها مسار الحريات عموماً ... صحيح أن القانون لم يتعدل حتى الآن، وبقي على حاله، لكن الصحيح كذلك، أن تطبيقاته الفعلية، تعيدنا إلى وضع أسوأ مما كنا عليه قبل العام 2011.
لا أحد يخبرك برفض تنظيم ندوة أو مؤتمر، ولكنك في المقابل قد لا تحصل على الموافقة أبداً ... يأتيك الهاتف من إدارة الفندق تعتذر فيه عن عدم قدرتها على السماح لك بعقد الورشة أو المؤتمر، مع أنك حجزت القاعة مبكراً، ودفعت مبلغاً من المال مسبقاً، واتفقت مع الإدارة على كافة الترتيبات .... يخبرك الموظف بكل كياسة أن “مندوب الأمن” في الفندق، لم يتلق كتاباً خطياً بالموافقة ... تذهب للمحافظة فيقال لك: لا وجود لمثل هذه الكتب الخطية، فقد ولّى زمانها، وهي مخالفة للقانون الذي اكتفى بالعلم والخبر ... تعود فرحاً لإدارة الفندق، فتخبرهم بحصولك على الموافقة الشفهية، تفرح إدارة الفندق فمثل هذه الأنشطة تأتي بالنفع عليها .... لكنها تصطدم من جديد بالمندوب، الذي يرفض الاتصالات الهاتفية والشفهية، ويصر على الموافقة الخطية.
تتصل بالداخلية، فيقال لك: عمّ تتحدث، لا وجود لكتب خطية، ألم تقرأ القانون ... تقطع أغلظ الأيمان بأنك فعلت وأن هذا مطلب “المندوب”، فيقال لك “المندوب مش فاهم، إحكوا مع المحافظ” .... إلى أن يصادفك مساء يوم الخميس، فتدخل البلاد بدوائرها في عطلة نهاية الأسبوع، ولم يبق أمام إدارة الفندق والجهة المنظمة، سوى الإعلان عن تأجيل النشاط أو إلغائه.
يحدث ذلك على مبعدة أسابيع من الانتخابات النيابية العامة، وهي المناسبة الوطنية التي تتناسل فيها الاجتماعات العامة من كل لون ومقصد وتتكاثر ... وتُترك لمواجهة الإحراج مع ضيوفك والمدعوين، وتتكبد المزيد من الخسائر التي لا داعي لها .... تعود في أوقات الهدوء للمراجعة وتوضيح الموقف: يقال لك، دعك من “حكاية القانون وضعه جانباً”، عليك أن تقدم طلباً قبل أسبوعين على الأقل، وأن ترفقه بأسماء المشاركين والمدربين والمحاضرين وصور عن جوازات سفر غير الأردنيين منهم، إن كان هناك غير أردنيين، وصور عن كافة الأوراق الثبوتية الخاصة بالمؤسسة.
أنت تعرف أن ذلك مخالف للقانون، ولكنك تريد للقاطرة أن تسير .... تفعل ما يطلب منك بالتمام والكمال، حتى وأنت تدرك في أعماق نفسك أن الأمر برمته يستطبن تجاوزاً على القانون .... ولكنك تفاجأ مرة أخرى، بهذه الحلقة المفرغة، من سوء الاتصال والتواصل ... هذا يطلب كتاباً خطياً وذاك يمتنع عن إصداره، والفندق يعطيك “مهلة ربع الساعة الأخير” قبل إلغاء الحجز، أي إلغاء النشاط أو تأجيله.
لماذا الإصرار على هذه الدوامة، ولماذا إغراق الناس في لجة من الإجراءات البيروقراطية؟ .... إن كان البعض في أجهزة الدولة غير راض بالقانون المذكور، فلنعد رسمياً للقانون القديم، فقد كان أرحم وأقل تعقيداً ... أما أن يقال لنا رسمياً بأن لدينا أفضل قانون للاجتماعات العامة في العالم، في حين أن القانون هو الأسوأ على الإطلاق في حيز التطبيق، فتلك مسألة يجب أن يعاد النظر فيها جذرياً.
مؤسف أنك ترى”معايير مزدوجة” و”مزاجية مدهشة” تتحكمان في الإجراءات التطبيقية للقانون، فلا يخضع الجميع لنفس المسطرة، ولا تجد التعقيدات ذاتها، بالقدر ذاته، في مختلف المحافظات ... والمؤسف أكثر، أن تبرير هذه التعقيدات، إنما يعلق على مشجب التطرف والإرهاب والوضع الأمني وغير ذلك، علماً بأنني لا أعرف عن مؤسسات مصنفة متطرفة أو إرهابية، تلجأ لأسلوب الندوات وورش العمل للترويج لخطابها، فلماذا يجري التضييق على “حلفاء الدولة في حربها ضد التطرف والغلو”، بدل تشديد القبضة على مساحات التحرك المفتوحة التي يتحرك فيها الغلاة والمتطرفون؟
الديمقراطية ليست “انتخابات معلبة” يجري فتحها مرة كل أربع سنوات، وغالباً بقانون أعرج، الديمقراطية نمط حياة، نعيشه يومياً، ونمارسه من مطلع الشمس حتى مغربها، حرية في الرأي والتعبير والاجتماع والتنظيم والصحافة والإعلام، قبولاً للتعددية والرأي الآخر، وتقبلاً للأدوار المتكاملة التي يقوم بها مختلف اللاعبون، من أحزاب ونقابات وجمعيات ومنظمات ومراكز أبحاث وغيرها .... وكيف لنا أن نتحدث عن “عرس ديمقراطي” فيما بات من الصعب جمع “المعازيم” خلف مائدة مستديرة لساعتين أو ثلاث ساعات؟