عريب الرنتاوي
نجحت «النصرة» وأخواتها في حرف الأنظار عن هزائمها المرة في يبرود والقلمون، عندما شنّت هجوماً مباغتاً ومتعدد الجبهات والمحاور في الشمال والشمال الغربي لسوريا، وعلى حواف المناطق الحصينة والأكثر حساسية للنظام: اللاذقية، وكان لوصول المسلحين إلى قلب مدينة كسب وخربة السمرا، وقعاً مدوياً في سوريا، حيث باتت المعارك الدائرة في هذه المناطق، هي الشغل الشاغل لكل مهتم بالأزمة السورية.
العارفون بجغرافيا هذه المنطقة، ومن بينهم كاتب هذه السطور، يصعب عليهم أن يصدقوا الرواية التركية التي تدّعي البراءة مما حصل ... مثل هذه الأعداد من المقاتلين (يقال خمسة آلاف مقاتل)، ما كان لها أن تحتشد وتتسلح وتتوزع على المحاور وتندفع بقوة وفي توقيت متزامن، من دون أن تكون تركيا قد وفرت لها «الجغرافيا الآمنة» وغرف العمليات والسلاح النوعي والمعلومات اللوجستية والاستخبارية، فضلاً عن القصف المدفعي والغطاء الجوي ... بخلاف ذلك، كل ما يرد ذكره، كلام فارغ، لا يمكن أن يؤخذ على محمل الجد.
السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: لماذا فعلت تركيا ذلك؟ وما هي حدود التورط التركي اللاحق في ميدانيات الأزمة السورية؟ ... هل نحن أمام «فشة خلق» أقدم عليها أردوغان المحاصر بتويتر وغوغل وفضائح الفساد وفتح الله غولن وكمال أوكلتشدار وعبد الله أوجلان، وأن مفاعيل هذا التورط ستنتهي بانتهاء الانتخابات البلدية، التي جعلها رئيس «العدالة والتنمية» قضية حياة أو موت... أم أننا أمام استراتيجية تركية جديدة، قررت خلع «برقع الحياد» الزائف، والتورط مباشرة في دهاليز الحرب السورية؟
لو ترك الأمر لأردوغان وأوغلو، لكانت القوات التركية اليوم على مشارف دمشق إن لم يكن في قلبها، ومن ضمن قوات أطلسية متعددة الجنسيات، لكن اندفاعة الرجلين، تكسرت على صخرة التردد الأمريكي والاستنكاف الأطلسي والانقسام الأوروبي والضعف العربي عموماً ... الرجلان بحت حنجرتيهما وهما يدعوان للحسم والتدخل و»عدّ» الأيام الأخيرة للرئيس السوري بشار الأسد من دون جدوى.
بيد أن رياح الأزمة السورية، لم تأت بما تشتهي سفن السلطان أردوغان، بل هي أخذت تحدث استدارتها الكاملة، ويبدو أن الدور قد جاء على تركيا، لقطف الثمار المرة لسياساتها التوسعية، التي فاحت منها رائحة العثمانية الجديدة في العامين الفائتين، والمؤكد أن رئيس الوزراء العنيد، لم يلق الراية البيضاء بعد، فأمس ، وأمس فقط، شبّه خصومه من المعارضة التركية بأنهم أبواق للأسد والسيسي... لا شيء يميز أردوغان أكثر من التعنت والعناد والمكابرة، وهذه الصفات وحدها، كانت السبب في زعزعة أسطورة الرجل، وجعلته عبئاً على تركيا وحزبها الحاكم، آن أوان التخلص منه، إن أريد لتركيا إدراك ما يمكن تداركه.
على أية حال، كان لأردوغان والنصرة ومن يتعاطف معهما ما أرادوا ... تشتت الأنظار عن يبرود وقلعة الحص، وبات النظام مهدداً في معقله وحاضنته الاجتماعية ... لكن قراءة المشهد في تلك البقعة من سوريا، وبعقل بارد، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن «المنتصرين» لن يهنؤوا طويلاً بنصرهم الخاطف، فالنظام وحلفاؤه، لن يسمحوا لهذا الاختراق أن يستمر طويلاً، ومهما كلف الثمن.
ثمة سيناريو واحد فقط، يمكن أن يحفظ للنصرة وأخواتها «نصرها» الجديد، وهو أن تتعهد تركيا بأخذ المسؤولية عن توفير الغطاء الجوي والمدفعي، والتدخل في عمق الأراضي السورية إن لزم، من أجل دحر الجيش السوري، ومنعه من استرداد تلك المناطق، وهذا ما كانت تعرفه تركيا جيداً قبل بدء الهجوم، ولهذا قررت ضرب الطائرة السورية فوق الأجواء السورية، كما تشير كافة الدلائل ومصادر المعلومات.
لكن التقارير الواردة من شمال – غرب سوريا، تقول إن تركيا انكفأت عن تدخلها العسكري المباشر، فجأة ومن دون انذار، البعض عزا ذلك إلى «تحذيرات» تلقتها أنقرة من روسيا وإيران ... البعض يقول إن الجيش التركي الذي قبل بـ «مسايرة» أردوغان وهو على أرضه، يرفض التوغل في عمق الأزمة والأرض السوريتين، لذلك قرر التراجع، سيما بعدما لاحظ إصراراً سورياً على مواصلة الطلعات الجوية، برغم إسقاط الطائرة، وما رافقها من تحذيرات نارية صدرت عن أردوغان وصحبه... يبدو أن قرار تركيا بدخول الحرب في سوريا وعليها، لم ينضج بعد، وأن دونه العديد من العوائق الداخلية والإقليمية والدولية ... يبدو أن أردوغان، قرر اللعب على «حافة الهاوية» في سوريا ومعها.
لا ندري كم من الوقت ستستغرق معارك استرداد كسب وجوارها، وإعادة تأمين معقل النظام وقلعته، كما لا نعرف شيئاً عن الأكلاف التي سترتبها تلك المعارك على الجانبين، بيد أننا نعرف تمام المعرفة، أن «كسب» بالنسبة للنظام أهم من معلولا، والسمرا والنقطة 45 أهم من يبرود والنبك ودير عطية، أو بأهميتها على الأقل، وهو مستعد لأن يدفع أكلاف استرجاعها مهما عظمت وتعاظمت.
ما لم يقع المحظور، وتندلع الحرب التركية – السورية عن قصد أو من دونه، فلن تتمكن النصرة وحليفاتها، من الاحتفاظ بهذه المناطق، لكنها في مطلق الأحوال، نجحت في «تنفيس» انتصارات القلمون، وأظهرت أن الحرب في سوريا كر وفر، وليس فقط طريقاً ذا اتجاه واحد: انتصارات للجيش وهزائم للمعارضة، ومن المتوقع أن تشهد جبهة الجنوب السوري، اختراقات مماثلة، وربما قبل أن تهدأ غبار المعارك على جبهة الشمال والغرب، فالمطلوب تشتيت الجيش وإرباك النظام وإنهاك حلفائه، بعد أن بات الحديث عن إسقاطه،متعذراً.