عريب الرنتاوي
هي انتفاضة بكل ما للكلمة من معنى، لا معنى للأعداد والأرقام هنا ... المغزى والدلالة، يكمنان في الدلالة والتوقيت:
في الدلالة: تأتي انتفاضة العرب الأرثوذكس في فلسطين والأردن، ضد هيمنة بطريركية أجنبية مريبة، فتعيد الاعتبار إلى “عروبة” الكنيسة ومشرقيتها، واندماج أبنائها وبناتها بأهلهم وشعبهم في السراء والضراء، وتصدرهم صفوف النضال من أجل حفظ عروبتهم وعروبة كنيستهم، من أجل تعميق انخراطهم في المشروع الوطني الفلسطيني المقاوم للاحتلال والاستيطان والتهويد و”الأسرلة”.
في الدلالة أيضا: ينتفض مسيحيو الكنيسة الأرثدوكسية، ضد مشاريع تهميش وإقصاء رجال الدين العرب، الفلسطينيون منهم بخاصة، الذي أظهروا بسالة في الدفاع عن شعبهم وقضيتهم الوطنية، في وجه احتلال إحلالي، استيطاني، عنصري، أتى على الزرع والضرع، وحرق البشر والشجر والحجر.
في الدلالة أيضا وأيضا، هي انتفاضة ضد “تهريب” أرض الكنيسة، الممتدة على مساحات شاسعة من أرض فلسطين، لأيدي “الوكالات الصهيونية”، الساهرة على سرقة كل شبر من أرض العرب الفلسطينيين، ولا تدخر فرصة دون أن تستثمرها لوضع اليد على هذه القطعة أو تلك التلة، على هذا “الوقف” أو ذاك الأثر.
وفي الدلالة كذلك، فإنها انتفاضة ضد “صمت الكنيسة المتآمر” على مشروع تجنيد الفلسطينيين في صفوف جيش الاحتلال ... الكنيسة لاذت بصمت القبور حيال هذا المشروع، فيما أبناء فلسطين، من مسلمين ومسيحيين، يقفون ببسالة ضده، بل ويسعون في تحريض من التحق بجيش الحرب الإسرائيلي، من بعض الطوائف والجماعات الفلسطينية، للتراجع عن هذا الموقف، والعودة إلى صفوف الإجماع الوطني الفلسطيني.
قصص وحكايات، لا تنقطع، عن ممارسات كنسية، تستهدف رجال الدين الأكثر التصاقاً بمصالح شعبهم ونبضه ... رجال دين يعاقبون لأنهم يجوبون البلاد بمدنها وقراها، القائمة منها والمهدمة، من أجل الذود عن الأرض والحقوق، من أجل الدفاع عن أبناء الطائفة الكريمة ... حرب شعواء ضد رجل الدين المناضل عطا الله حنا، لأن مواقفه لا تروق للبطاركة اليونانيين ... كنيسة “عاقر” كما قال أحد المنتفضين، لم تعد تنتج رجال دين عربا، لكأن المسيحي العربي، لا يصلح لإدارة شؤون دينه ودنياه!!
أما عن التوقيت ودلالته، فحدث ولا حرج ... فالانتفاضة تأتي فيما المسيحيون العرب، يواجهون واحدة من أصعب المراحل التي تمر بدولهم ومجتمعاتهم، حيث يتعرضون لكل أشكال الأذى والاستهداف، من قبل جماعات ظلامية متخلفة، لم يكرم الله وجهها قط، بإطلاق رصاصة واحدة، ضد الاحتلال والاستيطان، فعاثت قتلاً واختطافا وتشريداً بمسيحيي بلادنا، من العراق إلى لبنان، مروراً بسوريا ومصر.
هي الانتفاضة التي تندلع في ذروة حرب التطهير التي خاضتها الجماعات الإرهابية ورعاتها وداعميها، ضد مسيحي معلولا وكسب ... وقبلها ضد كنائس العراق وأتباعها ... حتى أن ما يقرب من مليون مسيحي عراقي، قد تم تشريدهم على أيدي هذه العصابات، خلال السنوات العشر الفائتة
هي الانتفاضة التي تأتي بعد أشهر قلائل على “العهدة الداعشية” لمسيحيي الرقة، بأن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وأن يمتنعوا عن ممارسة شعائرهم في العلن، وأن يحجموا عن ترميم كنائسهم التي هدّمتها الأيادي السوداء، وأن يجردوا أنفسهم حتى من “سكاكين” مطابخهم، بئس العهدة التي تضع هذا المكون الأصيل والتاريخي من مكونات الشعب السوري، في مرتبة العبيد والأتباع الأذلاء لفقهاء الظلام.
هي الانتفاضة التي رفعت صوت المسيحيين العرب عالياً: نحن أبناء هذه الأرض وملحها ... لن ترهبنا عمليات الترهيب والتشريد والقتل والاختطاف ... صامدون هنا، فوق تراب وطننا وبين أبناء شعبنا ومجتمعنا ... لن تنجحوا في أن تحرفوا بوصلتنا عن فلسطين ... لن تقنعونا بأن لنا عدواً آخر، غير ذاك الذي يحتل أرضنا ويصادر ممتلكاتنا ويشرد شعبنا ويحاصر كنائسنا تحت شعارات “يهودية الدولة” ... نحن قبلكم على هذه الأرض، وسنظل بعدكم ... نحن الباقون وأنتم الزائلون، وستظل صلبان كنائسنا وأجراسها، شامخة تقرع بقوة في فضاء هذا المشرق العربي، متآخية مع مآذن مساجدها وأهلّتها.
"نقلاً عن جريدة الدستور الأردنية"