عريب الرنتاوي
لم نتقبل بارتياح، حكاية “الولاية الرابعة” للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة ... أولاً، لأننا نؤمن بتداول السلطة، ونرفض شعار “إلى الأبد”، ونثق بقدرة أربعين مليون جزائري على تقديم البدائل الكفؤة، حتى لا نقول الأكثر كفاءة ... وثانياً، لأننا تابعنا الوضع الصحي المتدهور للرئيس المنتخب، والذي منعه من إدارة حملته الانتخابية بنفسه، وأقعده عن المشاركة في الاقتراع واقفاً على قدميه، دع عنك، ضعف قدرته على مخاطبة شعبه، حتى من خلال مقابلات مسجلة، لا تتجاوز مدتها الزمنية، الدقائق المعدودات ... لكننا ونحن نقول كل ذلك ونعيده، نسجل أننا نحتفظ للرئيس بأعمق مشاعر التقدير والاحترام، لأدواره التاريخية وطنياً وقومياً وإقليمياً، مذ أن كان وزيراً لخارجية بلاده، وإرثه في هذا المجال، معروف، وليس بحاجة للتذكير، دع عنك دوره في تصفية ذيول “العشرية السوداء”، ونجاحه في تكريس “الوئام الوطني”.
ولا نسقط من حساباتنا، ونحن نقرأ تجربة الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الجزائر، مزاعم التدخل الحكومي والتزوير ... فمثل هذه الأمور تحدث في بلادنا، فنحن قومٌ، ما زالت تفصلنا عن “طهارة وعذرية صناديق الاقتراع” مسافات طويلة ... وإن كنّا بالطبع، لا نجنح إلى الموافقة على بعض التقديرات المتطيّرة، بهذا الخصوص، خصوصاً حين تصدر عن معارضين غاضبين، خسروا معركة الصناديق بصورة مروّعة، كما تشير الأرقام.
لكننا ونحن نقرأ النتائج الأولية للانتخابات، ونرى اتساع الفجوة بين الفائز وأول الخاسرين، والتي تقارب السبعين بالمائة، نظن أنه مهما تفاقمت وقائع التزوير وتفشت، فإنها لن تقلب الموازين والمعادلات ... فمن الواضح أن الناخب الجزائري، قد انحاز “للاستمرار والاستقرار” وظلّ على خشيته من “التغيير والتبديل”... وأحسب أن هذه المخاوف، أكثر من غيرها، هي من أعادت بوتفليقة إلى القصر الجمهوري لولاية رابعة، فالرجل ارتبطت به شخصياً، مرحلة “الوئام” واستعادة الأمن والأمان، بعد “عشرية سوداء” أطاحت بأكثر من 150 ألف جزائري.
والحقيقة أن هذا السبب بالذات، هو ما دفع الجزائريين للتريث في الالتحاق بقطار الربيع العربي ... إذ على الدوام كانت أجوبة أصدقائنا الجزائريين من حزبيين وسياسيين وأكاديميين على سؤال: هل سيصل الربيع العربي إلى محطته الجزائري؟ ...على الدوام كانت أجوبتهم تدور حول هذه النقطة بالذات، فالملسوع بقرصات عقارب الفوضى والفلتان والحروب الأهلية، يخشى “جرة الحبل” كما يقول المثل الشعبي الدارج ... والجزائريون أظهروا في الانتخابات الأخيرة، أنهم لم يغادروا مربع الحذر والتحفظ في الاستجابة لدعوات التغيير ونداءات الإصلاح الجذرية.
البعد الثاني في المشهد الجزائري، ويتعلق بالحركات الإسلامية في هذا البلد، التي وإن كان من غير الجائز التقليل من أوزانها ونفوذها، إلا أنها عانت الكثير من تداعيات “العشرية السوداء”، بمن فيها تلك التي لم يكن لها ناقة ولا جمل، في إحداث العنف وجرائم الإرهاب التي روّعت المجتمع الجزائري، وأحدثت صدمة عميقة لدى مختلف مكوناته وطبقاته الاجتماعية والاثنية والسياسية .... وهي وإن كانت لا تزال تحظى بقدر من التأييد في أوساط الرأي الجزائري، إلا أنها لم تعد اللاعب رقم واحد في البلاد، وثمة قراءات وتقارير ودراسات، تذهب جميعها إلى هذا الاستنتاج وتلكم الخلاصة، ولقد تبين في الانتخابات الأخيرة، أن دعوتها للمقاطعة، لم تجد صدى عميقاً، وإن كانت أثرت على معدلات الاقتراح بصورة طفيفة، من دون ريب.
وزاد الطين بلّة، إن انتخابات الجزائر الرئاسية، جاءت بعد فترة وجيزة من سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر، وما ترتب على ذلك من انكفاءات متسلسلة عاشتها الحركات الإسلامية في عدد من الأقطار العربية، تتفاوت في درجتها وشدتها ... ولا شك أن الحركات الإسلامية في الجزائر، قد نالها نصيب من التراجع، بفعل تداعيات الحدث المصري، والحرب الشعواء التي تشنها أطراف عربية وازنة ض جماعة الإخوان، وكل لأسبابه ومراميه الخاصة.
إن أخشى ما يخشاه المراقب الغيور على مصلحة الجزائر وتقدمها واستقرارها، أن تصبح انتخاباتها الرئاسية الأخيرة، بما أثارته من انقسامات وجدل لا يتوقفان، سبباً لمزيد من عدم الاستقرار والانقسام، بدل أن تكون تتويجاً لمسار توافقي ووئامي، تبدو الجزائر، كما مختلف أقطار عالمنا العربي، بأمس الحاجة إليه ... لكن أما وقد حصل ما حصل، فإن المطلوب من الرئيس الجزائري، وهو يدلف عتبات ولايته الرابعة، أن يجدد جهوده ومبادراته لرعاية الوئام الوطني وتعميقه، وجعل ولايته الرابعة والأخيرة، مدخلاً انتقالياً، يأخذ الجزائر، سلمياً وتوافقياً، إلى ضفاف الحرية والديمقراطية ... نأمل ألا يفكرن أحد بفتح صفحة سوداء جديدة، من “تصفية الحسابات” و”الثأر والانتقام”، أو أن يخطر بباله بأن نصراً انتخابياً مؤزراً، يمكن أن يمنحه تفويضاً لقتل أشواق الجزائريين وتطلعاتهم للحرية والكرامة والتنمية والديمقراطية.
"الدستور"