عريب الرنتاوي
المشكلة الأهم التي تواجه “التفاهمات” الأمريكية الروسية في سوريا، تكمن في الأصل، في “سوء التفاهم” بين مراكز صنع القرار الأمريكي المختلفة ... البنتاغون والخارجية والبيت الأبيض والسي آي إيه، دع عنك الكونغرس وجماعات الضغط المختلفة، التي تسهم إسهاماً مباشراً في تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية... الروس يعتقدون أن سياسة كيري السورية، لا تحظى بقبول البيت الأبيض، وبالأخص البنتاغون والسي آي إيه، ويعزون الفشل المتكرر في نقل “تفاهمات كيري لافروف” إلى حيز التنفيذ إلى هذه الخلافات.
من بين مختلف “مراكز صنع القرار الأمريكي”، يبدو الوزير جون كيري، هو الأكثر حماسةً للتعاون مع موسكو والتنسيق معها ... لكن انتقادات حادة تتلقاها السياسة الأمريكية في سوريا على وجه الخصوص، تجعل الوزير الأمريكي يتراجع بين الحين والآخر عن بعض تفاهماته مع نظيره الروسي الأشهر، سيرغي لافروف، واحياناً، كما حدث بالأمس القريب، يذهب الوزير الأمريكي إلى أبعد نقطة في التشدد، فيهدد بإعلان القطيعة مع موسكو، إن ثبت أن “ممراتها الإنسانية” في حلب، ليست سوى نوع من الخديعة أو المناورة.
الروس يشكون من مماطلة واشنطن ومراوغتها في تنفيذ “التفاهمات” التي يجري التوصل إليها عبر قناة “لافروف – كيري”، بعضهم يعزو ذلك كما قلنا، إلى خلافات واشنطن الداخلية، وصعوبة بناء موقف واحد بين مختلف مؤسسات صنع القرار في واشنطن ... لكن بعضهم الآخر، يذهب به الشك، حد اتهام واشنطن بممارسة لعبة مزدوجة، تتحدث عن الحاجة لحل سياسي في سوريا، وتشحن عشرات الأطنان من السلاح الثقيل إلى المعارضات السورية من موانئ أوروبا الشرقية (وغالباً بتمويل عربي – خليجي) .... تتحدث عن محاربة الإرهاب، وتقبل تضمين النصرة على لوائحه السوداء، حتى بعد تغيير اسمها، إلا أنها تماطل وتمانع في قيام الروس وحلفائهم، بتوجيه أية ضربات جدية للفرع السوري لتنظيم القاعدة، قبل أن تتم “المخالعة” بين الجانبين، بالتراضي والتوافق كما هو معروف.
مع ذلك، لا تجد موسكو بديلاً آخر، سوى استمرار التعاون والعمل المشترك مع واشنطن ... ذلك أن الكرملين يدرك تمام الإدراك، أنه من دون مظلة تعاون روسي – أمريكي، ستتحول سوريا إلى أفغانستان ثانية بالنسبة لروسيا ... و”القيصر” يدرك، أنه من دون “عملية سياسية” قد يتحول وجوده العسكري على شاطئ المتوسط، ضرباً من المجازفة غير المحسوبة ... من هنا، يأتي “الصبر” و”طول النفس” الروسيين، في التعامل مع السياسة الأمريكية التي تقول الشيء وتفعل نقيضة، تتعهد بشيء وتمارس عكسه، ولا تكف عن إعطاء الوعود المتناقضة لحلفاء وأصدقاء وشركاء مختلفين.
أبعد من ذلك، تظن موسكو، أن ثمة فرصة، تقاس ببضعة أشهر، يجب اغتنامها، قبل أن تنتقل مقاليد السلطة والقرار الأمريكيين من أوباما – كيري، إلى هيلاري كلينتون ووزيرة دفاعها الجديدة، وهما ثنائي “صقري” معروف برغبته الدفينة في توسيع تدخله العسكري المباشر في الأزمة السورية ... كلينتون دافعت عن ضرب الأسد وقواته عندما كانت على رأس وزارة الخارجية، ووزيرة الدفاع الأمريكية المرجحة في عهدها، ميشال فلورنوا متحمسة بدورها لتوجيه ضربات ساحقة للجيش السوري وحلفائه ... الروس يريدون انتزاع المزيد من “التفاهمات” من جون كيري، قبل أن يصبح التفاهم عصياً على التحقيق، والأهم، هم يريدون تثبيت وقائع جديدة على أرض حلب وإدلب والجنوب، قبل أن تستيقظ الإدارة الأمريكية الجديدة، ومعها برنامج عمل مغاير لسوريا.
الاضطراب في الموقف الأمريكي، وبصرف النظر عمّا إذا كان حقيقياً، ناجماً عن خلافات داخل الإدارة، أم مناورة، يراد بها كسب الوقت وانتزاع مزيد من التنازلات من موسكو وحلفائها، سيزداد تعقيداً في ضوء اضطراب علاقات واشنطن بحلفائها الإقليميين ... فالعلاقة التركية – الأمريكية، تتجه إلى مرحلة شديدة التعقيد في ظل اتهامات أنقرة لواشنطن بالضلوع في مؤامرة الانقلاب، مقابل تحسن مضطرد في علاقات تركيا مع موسكو ... والعلاقة الأمريكية – الخليجية، تحكمها الشكوك وحالة انعدام الثقة، لا يرتجى لها اصلاحاً في ظل الإدارة الحالية ... وهذه عوامل ومتغيرات، تلعب لصالح موسكو، التي نجحت في أن تكون لاعباً لا غنى عنه، في معظم ملفات المنطقة وأزماتها.