عريب الرنتاوي
من يتتبع تصريحات كبار المسؤولين السعوديين، وتحديداً وزير الخارجية عادل الجبير، يلحظ أن السياسة الخارجية للمملكة قد وضعت لنفسها هدفاً “أسمى”: طرد إيران من المنطقة، بدءاً باليمن، مروراً بسوريا والعراق وانتهاء بلبنان، فضلاً بالطبع، عن وقف تدخلاتها في الشؤون الداخلية لدول الخليج ذاتها.
من هذا المنطلق، تصر المملكة على رفض أي دور للرئيس السوري بشار الأسد صبيحة اليوم التالي لتشكيل هيئة الحكم الانتقالي وفقاً لقراءتها لبيان “جنيف 1” ... وتحرص الرياض على رفض أي دورٍ إيران في الجهود الرامية لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية ... وتوجه أشد الانتقادات للتدخل الروسي العسكري في سوريا ... وتقدم السلاح “النوعي” للمعارضات التي تصفها بالمعتدلة، ومن بينها صاروخ “تاو” المضاد للدروع.
في المقابل، كانت إيران شديدة الوضوح في رسم معالم سياساتها في الإقليم: لا نريد طرد السعودية منه، ولكننا لن نسمح لها بطردنا منه بحال من الأحوال، هكذا قال أكثر رموز التيار الإصلاحي اعتدالاً، الوزير صاحب الابتسامة الدائمة، محمد جواد ظريف، قبل عدة أيام، معلقاً على بعض المواقف السعودية التي صدرت على لسان الوزير الجبير.
إن ظلت الحال على هذا المنوال، فإن أحداً كما قال الوزير الألماني فرانك فولتر شتاينماير، لا ينبغي أن يتوقع حلاً سياسياً للأزمة السورية، فمن دون حوار إيراني – سعودي، لن يكون هناك حل سياسي للأزمة السورية ... شتاينماير الذي جال بين طهران والرياض، خرج متشائماً من نتائج محادثاته، على الرغم من أن بلاده، أكثر من غيرها، تريد الحل السياسي للأزمة السورية، وتريده اليوم، وليس غداً.
من مدريد، بدا أن وزير الخارجية الأمريكية، قد اكتشف متأخراً، أن سوريا تواجه تهديد الخراب والتدمير، لكأنه لم يسمع أو يشهد على تعرضها طوال السنوات الخمس الفائتة، لأبشع أشكال التخريب والتدمير، وبصورة حولت مدنها، إلى صورة عن مدن الحرب العالمية الثانية وخرائبها ... المهم، أن الوزير باح بمسؤولية بلاده الأدبية والسياسية والأخلاقية، عن منع الخراب والدمار التامين لسوريا، بالنظر لتداعيات ذلك على أمن أوروبا وجوار سوريا، وتحت طائلة المزيد من موجهات التهجير واللجوء وامتداد رقعة التهديد الإرهابي الذي بات يتخطى سوريا والإقليم إلى العالم على اتساعه ... فماذا تعني أقوال الوزير الأمريكي؟ ... ماذا يعني أن يستثني إيران من دائرة لقاءاته الإقليمية المنتظرة قريباً؟ ... وماذا تعني العودة إلى اشتراط رحيل الأسد، بعد أن كان من أوائل المسؤولين الغربيين، الذي تحدثوا عن إمكانية “التفاوض معه” والقبول به للمرحلة الانتقالية على أقل تقدير؟.
فجأة تتغير الموجة السياسية الدولية، فبعد سيل التصريحات الغربية التي مالت للأخذ بدورٍ للأسد في المرحلة الانتقالية، بدءاً من جون كيري، مروراً بهاموند وفابيوس وغيرهما، تعود الموجة اليوم للتصاعد والتصعيد .... فهل كان للتدخل الروسي العسكري في سوريا، أثر في في إطلاق موجة التشدد في المواقف الغربية هذه؟ ... هل عدّل الغرب من مواقفه وسياساته تحت تأثير الضغوط والإغراءات الخليجية (السعودية أساساً) حيال هذه المسألة؟ ... لا بل، هل كانت موجة “التهدئة” في التصريحات الغربية السابقة للتدخل الروسي، بمثابة “فخ” نصب لروسيا لدفعها للتورط في سوريا، ومن ثم استنزافها هناك؟ ... هل خدع الغرب فلاديمير بوتين و”كذب” عليه، كما فعل أول مرة في ليبيا كما تقول المصادر الروسية وتكرر القول في كل مناسبة؟
أياً يكن من أمر، لقد قارف الغرب خطأ فادحاً منذ بداية الأزمة السورية، إذ ظنّ أن بمقدوره حسم الأزمة أو حلها، من دون روسيا وإيران، بل وبالضد من إرادة البلدين وعلى حساب مصالحهما في الإقليم ... وإذ صدرت العديد من المواقف والتصريحات التي تعترف بهذا الخطأ فيما بعد، وتؤكد وجوب تجاوزه، إلا أن الأيام والأسابيع القليلة الفائتة، أظهرت تبدلاً في المواقف والسياسات، وعودة إلى تكرار “الخطأ” القديم ذاته ... فهل نحن أمام تحوّل نهائي في مواقف هذه الأطراف، أم أننا أمام جولة جديدة في لعبة “عض أصابع”، الهادفة تحسين شروط التفاوض وتمهيد الطريق لإبرام الصفقات؟
ثم، هل يمكن النظر إلى هدف “طرد” إيران من المنطقة، للقبول بها كلاعب وطرف، والنظر إليها كجزء من الحل لا كسبب للمشكلة/ المشاكل، وتطبيع العلاقات معها، بوصفه هدفاً “واقعياً” أو ممكناً؟ ... ما الذي ستجنيه إيران من تطبيع علاقاتها مع المملكة السعودية، إن كان ثمن هذا التطبيع، الإجهاز على دورها الإقليمي؟ ... هل ستقف إيران مكتوفة الأيدي حيال أمرٍ كهذا، وهل سيكبل اتفاق فيينا أيديها ويحول دون قيامها بهجمات معاكسة؟ ... وكيف سينعكس هذا الصراع الإلغائي، على توازنات القوى داخل إيران بين تياري الاعتدال (الدولة) والتشدد (الثورة)، بعد أن حظي التيار الأول بزخم إضافي إثر نجاحه في تمرير الاتفاق النووي وتسويقه في الداخل الإيراني؟ ... كيف سينعكس هذا “الصراع الإلغائي” على مواقف ومصالح الأطراف الأخرى في الإقليم والعالم، وإلى متى يستطيع حلفاء كل من البلدين، إيران والسعودية، تحمل الأعباء المكلفة، لصراعهما “الوجودي”؟
إن كانت التصريحات “الأقصوية” التي تصدر عن المسؤولين في دول الإقليم، تعكس حقيقة، المواقف والتوجهات الفعلية والنهائية، لأنظمتهم وحكوماتهم، فإن من المرجح أن تدخل المنطقة برمتها في “حرب المائة عام” بين مختلف مكوناتها وأطرافها، وليس مستبعداً أبداً، أن تتحول “حروب الوكالة” إلى حروب مباشرة بين دول الإقليم ذاتها، وثمة إرهاصات يمنية وسورية تشي بتزايد فرص هذا “السيناريو” واحتمالاته... وساعتئذ، لن تكون سوريا وحدها، هي الدولة المعرضة لأخطار الدمار والتخريب الشامل، بل إن دولاً أخرى، ستكون على لائحة “الخراب العظيم” الذي سيحل بالمنطقة، والذي لن تتوقف شراراته وتأثيراته المدمرة، على الإقليم وحده، بل ستتهدد الأمن والسلم الدوليين.
وربما لهذا السبب بالذات، نجد صعوبة شديدة، في قبول فرضية أن هذه المواقف “الأقصوية”، هي المواقف النهائية لهذه الأنظمة والحكومات، ونرجح أن نكون أمام جولة جديدة من جولات “عض الأصابع” وتحسين شروط التفاوض والحلول السياسية، التي يبدو للأسف، أنها ليست وشيكة، وأن عشرات الوف السوريين واليمنيين والعراقيين وغيرهم، سيضطرون لدفع أرواحهم وحيواتهم، وقوداً لإنضاج التسويات وتأمين شروط نجاح الصفقات.