عريب الرنتاوي
حتى الآن، يبدو أن الخسارة الكبرى في الحرب الإسرائيلية الثالثة على قطاع غزة، ستكون من نصيب الرئيس الفلسطيني محمود عباس وسلطته الوطنية ... الحرب تحتدم بين طرفين، والرجل ليس بيده قرار الحرب والتهدئة، مع أنه رئيس الشعب الفلسطيني الموزع على ساحات المعارك وميادين القتال، الاتصالات بخصوص التهدئة لا تجري معه إلا من باب رفع العتب “البروتوكولي” المحض، لكأنه وفريقه يجلسون على مقاعد المتفرجين، فيما المباراة الدامية تجري على إستاد فلسطين التاريخية، بين فريقين، لا يوجد له لاعب واحدٌ في صفوفهما.
هذه المرة، بدا الأداء الفلسطيني الرسمي أفضل قليلاً مما كان عليه في مرات سابقة، أقله، لا تصريحات منددة بالصواريخ العبثية، لكن هناك إشارات واضحة للمتاجرة “والمتاجرين” بالدم الفلسطيني ... هذه المرة هناك تصريحات “قوية” بعض الشيء ضد جرائم التطهير والإبادة التي تمارسها إسرائيل، وهناك نوع من “التفسير”، ولا أقول التبرير لظاهرة تساقط الصواريخ على الجبهة الداخلية في إسرائيل، ومحاولة لوضع الأمور في نصابها الصحيح.
لكن الأداء ما زال دون المستوى المطلوب بكثير ... حتى الآن، هناك قدر هائل من التردد في الانضمام لعضوية المؤسسات الدولية ومطاردة إسرائيل قانونياً بجرائم الحرب التي تقارفها في غزة ... هناك تردد في إشعال “ثورة غضب” في الضفة الغربية، مع أن تطور الأحداث، قد يفضي إلى اتساع رقعة المواجهة التي تشهدها بشكل خاص، مدينتا القدس والخليل ... حتى الآن، هناك رهان على دور “الدبلوماسية” في التوصل إلى اتفاق “تهدئة” جديد، لنعود بعدها إلى ممارسة يومياتنا المعتادة.
هذا الاختلاف الطفيف في الأداء الرسمي الفلسطيني يعود لسببين رئيسين اثنين: الأول؛ ويتجلى في فشل مهمة كيري، وتآكل احتمالات الحل التفاوضي، وانعدام قدرة القيادة الفلسطينية على “التبشير” بحل سياسي يأتي بنتيجة خيار “المفاوضات حياة” ... لا شيء عند الرئيس يعد به شعبه، وليجابه به خيارات حماس وتصريحات الناطقين باسمها “المُمجد” للمقاومة وخياراتها ... أما السبب الثاني، فيعود إلى كون العدوان الإسرائيلي على غزة، جاء وحكومة الوفاق الوطني، بالكاد تخطو خطواتها الأولى، ولقد وضع نتنياهو لعدوانه الأخير على القطاع، هدف ضرب المصالحة وفك الشراكة الناشئة بين عباس وحماس، وليس من اللائق أن يصب الرئيس الفلسطيني القمح في طاحونة نتنياهو وائتلافه.
سيزداد مأزق الرئيس والسلطة تفاقماً إن أمكن لحماس أن تخرج من “الجرف الصامد” باتفاق تهدئة متوازن، يلبي بعضاً أو كثيراً من مطالبها وشروطها الرئيسة ... عندها ستكون الحركة قد خرجت بالفعل من قبضة العزلة وأطواق الحصار التي تحيط بها منذ عام أو أزيد قليلاً ... وسيفضي ذلك إلى تعزيز مكانتها في “النظام السياسي” الفلسطيني، بعد أن بلغت دركاً خطيراً في اتفاق المصالحة وحكومة الوفاق، التي قلنا في وصفها بأنها “تعديل وزاري” لا أكثر، في دلالة على نجاح الرئيس عباس في فرض إملاءاته كاملة على حماس، فالحكومة حكومة الرئيس، ورئيسها ووزرائها من اختيار الرئيس، وبرنامجها (وهذا هو الأهم) هو برنامج الرئيس الذي يُعلي من شأن الخيار التفاوضي، وينبذ العنف و”الانتفاضة الثالثة” و”الكفاح المسلح”، و”يقدس” التنسيق الأمني مع الاحتلال.
لكن الحرب لم تضع أوزارها بعد، وثمة أطراف عديدة وازنة في المنطقة، ليس لها مصلحة في خروج حماس “مكللة بالغار”، ثمة مروحة واسعة من الدول العربية الوازنة، تذهب هذا المذهب ... ولا ندري بم ستنتهي إليه، الوساطات القطرية والتركية، بالرعاية الأمريكية، وبالتشاور مع القاهرة باعتبارها ممراً إجبارياً لأي اتفاق يتصل بغزة ... فإن جاء الاتفاق على غرار اتفاق نوفمبر 2012، لكأنك يا أبا زيد ما غزيت، أما إن نجحت الحركة وحلفاؤها في فرض مطالب وشروط إضافية على إسرائيل، فأحسب أن الأرض بما رحبت، لن تتسع للمُحتفين بهذا الإنجاز، وسيكون ما بعد “الجرف الصامد” ليس كما قبله، في حسابات الداخل الفلسطيني وعلاقات القوى بين مكوناته.
وبالمناسبة، نحن نعرف لأول مرة، أن اتفاق نوفمبر 2012 يبدو مرذولاً إلى هذا الحد، حتى من قبل من وقعه عن الجانب الفلسطيني، والسبب أن الذين يرفضون العودة إليه اليوم، هم أنفسهم الذين صوّروه نصراً مبيناً بالأمس، وقالوا عنه أنه ما كان ليتحقق لولا أن “قاهرة المُعز” قد آل حكمها إلى الدكتور مرسي وجماعة الإخوان ... ولأول مرة نسمع اعترافات بأن اتفاقات مشابهة أبرمت في زمن الرئيس المخلوع، كانت أكثر توازناً من الاتفاق المبرم في زمن الرئيس المعزول.
على أية حال، نحن ما زلنا بعيدين نسبياً عن وقف القتال والمعارك، فالوساطات التي تتحرك بكثافة خلف الكواليس، لم تصل بعد إلى خواتيمها، وليس من المرجح أن تصل قريباً، وأصعب مراحل المواجهة وأكثرها دموية، ما زالت أمامنا ... وسوف يتوقف على طريقة إنهاء هذه الجولة من المواجهة، تقرير مكانة حماس ووزنها في النظام الفلسطيني، فهي إما أن تخرج لاعباً رئيساً كما كانت في السنوات الأخيرة، أو تنضاف إلى لائحة الخاسرين، في خانة قد تسبق أو تلحق بالخانة التي يحتلها الرئيس وسلطته الوطنية ... المسألة برمتها، سيقررها الميدان.