عريب الرنتاوي
عملية “السور الواقي 2” التي تشنها إسرائيل منذ أزيد من عشرة أيام، تتخطى في أهدافها ومراميها، الأهداف المعلنة لها، والتي تنحصر بالبحث عن المستوطنين الثلاثة المفقودين، وتوجيه ضربة أمنية رادعة لحركة حماس، التي تتهمها إسرائيل بالمسؤولية عن “عملية الاختطاف”، فيما الحركة تؤكد بأن هذا الاتهام “شرفٌ لا تدعيه”، فلا تؤكده ولا تنفيه.
لقد بات واضحاً، لكل أعمى وبصير، أن استباحة سلطات الاحتلال للضفة والقدس والقطاع، إنما تستهدف استلحاق المفقودين الثلاثة وهم على قيد الحياة، ذلك أن إعلان “النصر المؤزر” لحملة العقوبات الجماعية العنصرية ضد الفلسطينيين، لا يكتمل إن عثرت السلطات على ثلاث جثث هامدة، مدفونة على عجل في هذا الركن أو تلك الزاوية .... وإعلان “النصر المؤزر” كذلك، سيظل ناقصاً، وفاقداً للألق، إن لم تكن “الفاتورة” التي يتعين على الجهة “الخاطفة” باهظة تماماً، وفي هذه الحالة، فإن حماس هي من يتحمل المسؤولية الرئيسة من وجهة النظر الإسرائيلية.
لكن المراقب عن كثب لأهداف الحملة الإسرائيلية الشرسة، يدرك أن ثمة أهدافا أخرى، تكتيكية واستراتيجية، تكمن وراءها... أحدها، تصفية ذيول ونتائج عملية تبادل الأسرى، أو ما أسمته إسرائيل عملية “تحرير شاليط”، فقوات الاحتلال قامت بإعادة اعتقال معظم الأسرى المحررين، بالذات المنتمين لحماس، بمن فيهم من نواب ووزراء سابقين ونشطاء ميدانيين .... دع عنك حملات الدعم والتفتيش ضد مؤسسات اجتماعية وتربوية وخيرية مقربة من حماس، لكأن إسرائيل تريد أن تطوي صفحة “تبادل الأسرى” المثيرة للجدل والانتقاد في أوساطها السياسة والأمنية، وتريد أن تبعث برسالة مسبقة لـ “الخاطفين” بأن ما مضى في صفقة شاليط لن يتكرر.
وثاني هذه الأهداف التكتيكية، يتصل بإطفاء جذوة “معركة الأمعاء الخاوية” التي يخوضها سجناء وأسرى فلسطينيون من بضعة أشهر، وذلك من خلال إعادة اعتقال الأسرى المفرج عنهم، بمن فيهم “أيقونة”الحركة الأسيرة، سامر العيساوي ... لكأن إسرائيل تريد أن تبعث برسالة إلى المناضلين خلف القضبان، لا أمل لكم بالحرية قريباً، ومحاولات تحريركم بالقوة زادت من أعدادكم ولم تنقصها، وإن خرجتم للحرية لأي سبب وفي أي ظرف، فإن إسرائيل قادرة على إعادتكم إلى زنازينكم في أية لحظة تشاء، ولكم في العيساوي، المثل والعبرة.
أما ثالث هذه الأهداف، التكتيكية كذلك، فيتصل بتدمير “فرصة” المصالحة الوطنية الفلسطينية، من خلال استهداف حماس بشكل كثيف، وتوسيع الشقة بين فتح وحماس، وتدعيم الاتهام الإسرائيل لحكومة الوفاق الوطني بأنها حكومة إرهابية، أذ تضم في صفوفها ممثلين لفصائل إرهابية (حماس).
على المستوى الاستراتيجي، متوسط وبعيد المدى، يبدو أن “استباحة” الضفة الغربية والقدس والقطاع، وعلى هذا النحو الهستيري المتفلت من أية حسابات للمجتمع الدولي أو احترام للمعايير الإنسانية، وغير المتحسب لأية ردود أفعال فلسطينية أو عربية، إنما تستهدف “تحضير المسرح” في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لاتخاذ خطوات أحادية ذات طبيعة استراتيجية ... وليس مستبعداً أن تتوّج إسرائيل هستيريا الميدان بهستيريا السياسة والاستيطان، كأن تقدم على ضم كتل استيطانية كبرى، كإجراء عقابي على واقعة اختطاف/ أو اختفاء المستوطنين الثلاثة، أو تسريع قرارها وإجراءاتها بالانسحاب من جانب واحد عن مساحة من الضفة الغربية، كثيفة بالسكان الفلسطينيين، وترك أمر الحل النهائي وخيار الدولتين، مركوناً حتى إشعار آخر.
وسوف تجد حكومة نتنياهو في هذه الواقعة، ذريعة مناسبة للقول بضرورة “الانفصال” عن الفلسطينيين من جانب واحد، فطالما أن “الحل التفاوضي متعذر”، وخيار الدولتين بات وراء ظهورنا، وطالما أن “حكاية الدولة الواحدة ثنائية القومية” لا يقبل بها أحد في إسرائيل حفاظاً على “يهودية الدولة وديمقراطيتها”، فلن يكون أمام إسرائيل والحالة كهذه، سوى السير على هذه الطريق ذي الاتجاه الواحد.
لا شك أن القائمين على عملية “السور الواقي 2”، المدركين لمدى وحشيتها وهمجيتها، يعرفون أن هجماتهم البربرية على المدن والقرى والبلدات والمخيمات الفلسطينية، قد تستدرج أعمالاً فلسطينية انتقامية، فالدم يستسقي الدم، والعنف لا يجر إلا العنف، وربما كان في صفوف حكومة اليمين واليمين المتطرف، من يريد استدراج الفلسطينيين إلى مثل هذا الخيار، للتخلص من بقايا الحذر والتردد اللذين ميزا أداء هذه الحكومة، في التعامل مع مقترح الانفصال من جانب واحد عن الفلسطينيين، وضم مناطق ذات أهمية استراتيجية من الضفة، وتحديداً الكتل الاستيطانية وغور الأردن ومناطق ما وراء جدار الفصل العنصري.
المؤسف أن إسرائيل نجحت في تحقيق بعض مراميها حتى الآن، فعشرة أيام من العدوان الهمجي، كانت كفيلة بهزّ أركان المصالحة، وعودة التراشق بين “الإخوة الأعداء” بكل وأقذع أنواع الاتهامات ... كما أنها تمكنت من إلحاق ضربة قاسية بحركة حماس ومنظومتها القيادية والكادرية وبنيتها التحتية ... والحملة كما تؤكد إسرائيل ما زالت في بدايتها، ولا أحد يعرف متى ستنتهي أو عند أي حدٍ ستتوقف.