عريب الرنتاوي
في مناخات الاستقطاب الشديد، في سوريا وحولها، من النادر جداً أن تقع عيناك على قراءة موضوعية في مغزى ودلالة ومجريات الانتخابات الرئاسية التي شهدتها البلاد أمس الأول ... خصوم سوريا، لاذوا بثلاث كلمات فقط بوصف ما حصل: “مهزلة”، “تزوير” و”غير شرعية” ... أما النظام وحلفاؤه، فقد أنشدوا فيها “مديح الظل العالي”، فهي لحظة مفصلية، وهي التأسيس “للجمهورية الثانية”، وهي البداية لمسار “المصالحة والحل السياسي” إلى غير ما هنالك.
حتى حين تعلق الأمر بلغة الأرقام والنسب المئوية، بدت الصورة أكثر غموضاً ... النظام يتحدث عن “طوفان بشري” وإقبال على الاقتراع فاق التوقعات ... فيما المعارضة تحدثت عن “صور مفبركة” وعزوف منقطع النظير، وانتخابات تحت سيف التهديد والوعيد، إلى غير ما هنالك ... والخلاصة أننا لم نعرف كم هم أصحاب الحق بالاقتراع، وأين يتواجدون، في مناطق سيطرة النظام أم خارجها، في سوريا أم في المغتربات، لاجئون هم أم نازحون، هل هم 10 ملايين 12 مليون أم 15 مليون ناخب، كما أننا لا نعرف كم من هؤلاء مارس فعلياً حقه في الاقتراع ... ليست هناك مصادر ذات صدقية، فكل رقم تقابله أرقام تشكك به، والنتيجة المزيد من الضبابية التي تغلف المشهد وتحيط بالصورة.
على أن ذلك، لا يمنع المراقب للمشهد السوري من تسجيل جملة من الملاحظات الجوهرية، ظلت حتى الآن، في إطار “المسكوت عنه” في حمأة التراشق السياسي والإعلامي والمدفعي، نوجز بعضها على النحو التالي:
أولها: ليس بمقدوره أحد الزَّعم بأنها انتخابات مُستوفية للحد الأدنى من معايير النزاهة والشفافية، ما لم يكن صاحب مصلحة في هذا الزعم، أو متورطاً حتى أذنيه في الولاء للنظام ... وأحسب أن النظام نفسه، كان معنياً أساساً بالرسائل التي يمكن لـ”الصورة” أن تحملها للعالم الخارجي، ولم يكن أبداً من المعنيين بالمعايير الدولية للانتخابات النزيهة والشفافة، ولا أدري إن كان استدعاء مراقبين من كوريا الشمالية على سبيل المثال، يمكن أن يضفي على هذه العملية، صدقية من أي من أي نوع.
ثانيها: في “حرب الصورة أو الصور، نجح النظام أيما نجاح، وسقطت المعارضة أيما سقوط، في اختبار الحشد الجماهيري وجمع الأنصار والمؤيدين ... ملايين السوريين خرجوا فعلاً للإدلاء بأصواتهم، في الوقت الذي أخفقت فيه المعارضة في جمع تظاهرة صغيرة منددة بالانتخابات أو داعية لمقاطعتها، حتى في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، والتي تقول إنها تقارب السبعين بالمائة من مساحة سوريا، لم نقرأ ولم نر ولم نسمع عن قيام بضع عشرات من السوريين للتظاهر تنديداً ورفضاَ واحتجاجا، لا كرهاً ولا طواعية.
ثالثها: في معركة الترغيب والترهيب، نجح النظام كذلك، وسقطت المعارضة ... أحمد الجربا دعا من غرفة في أحد الفنادق من ذوات النجوم الخمسة السوريين لالتزام منازلهم، فيما “المعارضات المسلحة” أمطرت دمشق وحلب واللاذقية، بوابل من القذائف والصواريخ وقوارير الغاز المفخخة، من أجل ترهيب الناخبين ومنعهم من الوصول إلى صناديق الاقتراع ... لكن “تكتيك” المعارضة السلمي والحربي فشل فشلاً، فيما “تكتيك” النظام أظهر جدواه، سواء لجهة نجاحه في تقديم الانتخابات على أنها استفتاء على سوريا، أو لجهة الوسائل المعروفة التي تعتمدها الأنظمة في استدراج المواطنين إلى صناديق الاقتراع.
رابعها: رأينا عشرات آلاف السوريين في لبنان، يتدفقون على سفارة بلادهم في بيروت للإدلاء بأصواتهم ، في زحف يذكّر بالتظاهرات المليونية التي اشتهرت بها العاصمة اللبنانية في العقد الأخير، قيل إن “شاحنات حزب الله” فعلت فعلها ... لكن وسائل إعلام لبنانية معادية للنظام السوري، أظهرت طوابير من الفتيات بـ “الشورت والبروتيل” تمتطين ظهور الدراجات النارية في طريقهن إلى السفارة السورية في اليرزة ... ورأينا ناخبين متحمسين يسكنون في المناطق الحاضنة لتحالف 14 آذار، وتكرر المشهد في يوم الانتخابات، مئات الناخبين السوريين، اخترقوا معاقل السنة والسلفية في طرابلس وعكار للإدلاء بأصواتهم في الصناديق التي وضعت على مقربة من معبري الدبوسية والعبدة وغيرهما ... هنا شاحنات حزب الله لا تستطيع المرور، وتأثير حزب الله يكاد يكون معدوماً.
خامسها: رأينا إقبالاً على الانتخاب في الدول التي سمحت بإجراء الانتخابات، سواء الصديقة منها للنظام أو تلك التي تقف على مسافة بعيدة عنه ... رأينا إقبالاً يفوق بأرقامه المطلقة والنسبية ما حصل في الانتخابات الرئاسية المصرية في الخارج ... ورأينا جسراً جوياً ينقل الناخبين من الكويت إلى دمشق، وعائدون من دول أوروبية عديدة، جاءوا لغايات الاستحقاق الانتخابي ... هؤلاء جميعاً ليسوا تحت قبضة النظام، ولا يخضعون للترغيب والترهيب، هؤلاء عينة من السوريين التوّاقين لعودة سوريا واستعادتها، كيفما كان وكيفما اتفق.
خلاصة القول هي ما سبق وأن قلناه في هذه الزاوية مرات ... السوريون في غالبيتهم، توّاقون لاستعادة الأمن والاستقرار في بلادهم، هؤلاء لا يمكن احتسابهم على النظام ولا على المعارضة ... هؤلاء ينتخبون سوريا، حتى وهم يدلون بأصواتهم للأسد أو يمتنعون عن التصويت ... هؤلاء وصلوا إلى خلاصة مفادها: إن كثيرا من خصوم الأسد، أسوأ منه ... هؤلاء لم تقنعهم المعارضة “السائحة” بين الفنادق ومقاعد الدرجة الأولى ومختلف صنوف العملات الصعبة والسهلة في الآن ذاته ... هؤلاء هم “وقود” المصالحات والتسويات التي تشهدها سوريا بكثرة هذه الأيام، وهم القوة المحركة لها.
راهنّا من قبل أن نسبة ما بين 55 – 60 بالمائة من السوريين ستصوت للأسد في أية انتخابات نزيهة في سوريا تجرى الآن ... نصفهم من أبناء الأقليات الدينية والقومية، ونصفهم الباقي من تجار البازار والطبقة الوسطى في دمشق وحلب وحمص ... في ظني أن هؤلاء هم من خرج من بيته يوم الاقتراع ... فليس كل ما رأيناه مفبركاً ... ما جرى يوم الثالث من تموز، يجب أن يُقرأ بعيداً عن التبسيط المخل، والتسطيحية الساذخة، والاتهامية الجاهزة واللغة الخشبية المعلبة، سواء تلك التي تصدر عن المعارضة وأصدقائها أو عن النظام وحلفائه.