عريب الرنتاوي
أياً كانت نتائج الجولة الحالية من الصراع على الأقصى، وبصرف النظر عن الكيفية التي ستنتهي إليها موجة التصعيد الديني-القومي-العنصري الإسرائيلية الأخيرة، فإن الحرب على القدس والأقصى والمقدسات، تبدو حرباً مفتوحاً، لا مطرح فيها لمعادلة “رابح – رابح”، سيما في ضوء التطورات المهمة التي تراكمت في عمق المشهد السياسي والحزبي الإسرائيلي.
إسرائيل تتجه بثبات نحو اليمين الاستئصالي، دينياً كان أم قومياً، و”لوبي الاستيطان” يعزز نفوذه في مؤسسات الحكم وصنع القرار، فمن بين 120 نائباً في الكنسيت، هناك 29 نائب يتحدرون من مستوطنات القدس والضفة الغربية، ويمثلون أقصى ألوان الطيف الإحلالي العنصري في التفكير السياسي الإسرائيلي.
وإذا كان “الآباء المؤسسون” للدولة “العبرية” قد سعوا إلى في مراحل مبكرة من تشكل المشروع الصهيوني، إلى علمنة “المقدس” اليهود، فإن فئات سياسية واجتماعية واسعة في إسرائيل، تسعى اليوم، كما يفترض الصديق الدكتور مهند مصطفي من جامعة حيفا، إلى “تديين” الصهيونية، بدلالة هذا النفوذ المتزايد للاتجاهات الأرثوذكسية اليهودية المتطرفة، ونجاحها في فرض “منطقها” الخاص على التيار المركزي في الدولة، ويتجلى ذلك بكل لا في الإصرار على “يهودية الدولة” فحسب، بل وفي سلسلة التشريعات العنصرية، القائمة على هدف “الأسرلة” و”التهويد”.
في هذا السياق، تأتي المعركة المفتوحة على الأقصى والمقدسات والقدس عموماً، من باب تحصيل الحاصل، وهي معركة لا يمكن لها أن تضع أوزارها، باتفاقيات مؤقتة، أو بتفاهمات هي أقرب إلى “الهدنة” و”التهدئة” كتلك التي رعاها جون كيري في عمان، في القمة التي جمعته بالملك ورئيس الوزراء الإسرائيلي، والتي ترتب عليها التزامات إسرائيلية بوقف التعديات والانتهاكات، مقابل عودة السفير الأردني لمزاولة عمله في تل أبيب، وقبول أوراق سفيرة إسرائيلية جديدة في عمان.
في الجولة السابقة من الحرب على الأقصى، كتبنا في هذه الزاوية بالذات محذرين من خطر التهديد الإسرائيلي، الذي لا يتوقف عن حدود القدس و”الرعاية الهاشمية” لمقدساتها، وأشرنا إلى أن إسرائيل إنما تستهدف بانتهاك المعاهدة والتمادي في الخروقات والانتهاكات، تهديد أمن المملكة وسلامتها واستقرارها، خصوصاً في هذه اللحظة الإقليمية التي تتميز بحضور “الدين” بكثافة في جملة صراعاتها وأزماتها المفتوحة، وانتهينا إلى خلاصة مفادها، يجب وضع “الأقصى” في كفة و”المعاهدة” في كفة أخرى.
ولم تكن لدينا أية أوهام للحظة واحدة، بأن نتنياهو سيلتزم بتعهداته، وهو المعروف عنه بنكث كافة المواثيق والمعاهدات، والأخطر، أن الرجل لم يعد يمتلك القدرة، بفرض توفر الرغبة، في احترام التزاماته مع الأردن، التي شهد عليها جون كيري، فالائتلاف الهش الذي يقف نتنياهو على رأسه، يولي اهتماماً بالتوسع الاستيطاني والتهويد، أكثر من عنايته بعلاقات متميزة مع الأردن، وأكثر من اكتراثه بأمن الأردن واستقراره.
والأردن لا يستطيع أن يقف متفرجاً فيما رعايته لأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين تتعرض للتهديد، خصوصاً في هذه اللحظة الإقليمية المتفجرة، حيث يحتدم صراع المرجعيات والشرعيات الدينية، بين نماذج وقراءات متفاوتة ومتنافسة، الأمر الذي لا يمكن المرور عليه بخفة أو سهولة، فأي تراجع في مكانة الأردن في الأقصى، سيستخدم ذريعة للانقضاض على دوره ومكانته وسمعته، وبما يهدد أمنه واستقراره.
يتعين ألا يتردد الأردن في توجيه رسالة قاطعة لكل من يهمهم الأمر، وبالذات في إسرائيل، بأن منظومة العلاقات الأردنية – الإسرائيلية، ستكون على المحك، في حال استمرار مسلسل الانتهاكات والتعديات، وأن “المعاهدة” فعلاً في كفة والرعاية الهاشمية بكل مستلزماتها وموجباتها، في كفة أخرى ... علينا ان نبدأ هذه الجولة، من النقطة التي انتهينا إليها في الجولة السابقة، لا أن نعود للغة التصعيد المتدرج، التي ثبت أنها عاجزة عن وقف مسيرة القضم المتدرج للأقصى والمقدسات.
وعلينا أن نفكر جدياً من قبل ومن بعد، بأن النظرية الإسرائيلية التي تقول بأن أمن الأردن من أمن إسرائيل، قد سقطت، أقله بالنسبة لتيار متنامي ويزداد تأثيراً، في إسرائيل، وهو التيار الذي يعطي الأولوية للتوسع و”الأسرلة” و”التهويد”، حتى وإن كانت النتيجة، تدميراً لخيار حل الدولتين، واستتباعاً تهديد أمن الأردن واستقراره، هويته وكيانه.
الأقصى يتحول إلى خط تماس ساخن بين الأردن وإسرائيل، والأردن لا يمتلك ترف خسارة هذه المعركة، إن لم يكن من باب نصرة الفلسطينيين، فمن باب حفظ أمنه وصون استقراره وهويته وكيانه.