عريب الرنتاوي
أصاب سيرغي لافروف كبد الحقيقة عندما وصف التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة «داعش» بأنه «غير منسجم» ... فهذا التحالف بات يتوزع على عدة محاور وتحالفات، بعضها أخذ يضرب بعضه الآخر «تحت الحزام»، وإن استمر الحال على هذا المنوال، فلن يكون مستبعداً أن تأتي خلافات التحالف الداخلية الكثيرة، على منجزاته القليلة، فنكون أمام حصيلة «صفرية» في الحرب على الإرهاب.
واشنطن على سبيل المثال لا الحصر، تنظر للأكراد في سوريا بوصفهم حليفاً ميدانياً موثوقاً وفاعلاً في الحرب على الإرهاب، وهي لا تكف عن تقديم الدعم العسكري والاستخباري واللوجستي لوحدات الحماية الشعبية التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، وتحرص الطائرات الأمريكية التي تنطلق من قاعدة «أنجرليك» التركية على إلقاء عشرات الأطنان من الأسلحة والذخائر والمعدات إلى مقاتلي في الداخل السوري جواً، كلما اقتضت الحاجة، وهي تمدهم بالاستخبارات وصور الأقمار الصناعية، وتوفر لهم التغطية الجوية المنسقة من غرفة عمليات واحدة.
تركيا في المقابل، وربما من قاعدة «أنجرليك» ذاتها، تسيّر الغارات والضربات الجوية لقواعد الحزب ومقاتليه ومراكزه، بوصفه وحلفائه، تنظيماتٍ إرهابية، تهدد أمن تركيا واستقرارها ووحدتها ... إنها حقاً مفارقة غريبة عجيبة: من «أنجرليك» تنطلق الطائرات الأمريكية محمّلة بالسلاح والعتاد لأكراد سوريا، ومن القاعدة ذاتها تنطلق الطائرات التركية، لتدمير هذا السلاح وتقتيل العناصر التي تحمله وتعمل عليه ... وكلا الفريقين يدعي دوراً ريادياً في الحرب على الإرهاب، كلاهما عضو في التحالف الدولي، والأهم، كلاهما عضو في «الأطلسي»؟
وواشنطن على سبيل مثال آخر، لا تكف عن إطلاق التأكيدات بأنها تريد لسوريا المستقبل، أن تكون ديمقراطية، موحدة وعلمانية ... حلفاء واشنطن الأقربين، وبالذات تركيا وبعض دول الخليج، يدعمون قوى مسلحة فاعلة على الأرض السورية، أصولية بامتياز، تكفّر الديمقراطية، وتكره التعددية، وتنظر للعلمانية ككفر صراح وإلحاد صريح ... واشنطن لا تحرك ساكناً حيال أمر كهذا، بل وتنفي وجود تناقض بين غايتها ووسائل حلفائها، وتمارس تواطئاً مشبوهاً على هذه العملية ... فهل نصدق ما نسمعه من واشنطن على أثير الفضاء والفضائيات أم ما نراه من حلفائها على الأرض في الميدان؟
أحرار الشام، هي الابن الشرعي، المُتبنى رسمياً من قبل بعض هذه العواصم، أما «النصرة» فهي الابن غير الشرعي لهؤلاء، الذي يخجلون من الاعتراف بأبوته ولكنهم يعطفون عليه ويمدونه بكل أسباب القوة والمنعة ... جيش الإسلام بقيادة زهران علوش، هو خلاصة خطيئتين: البلطجة والتطرف ... هذه هي القوى المشكلة للعمود الفقري لحلفاء حلفاء واشنطن في سوريا، فهل الديمقراطية والعلمانية والتعددية، هي الثمرة المرجوّة من دعم هؤلاء وتمكينهم؟
واشنطن وعلى سبيل مثال ثالث، تريد لإيران أن تكون جزءاً من الحل بعد أن كانت قبل الاتفاق النووي جزءاً من المشكلة ... وأحد بواعث الحماس الأمريكي لـ»اتفاق فيينا» كما يقول الراسخون في العلم، إنما تجلى في رغبة واشنطن وجاهزيتها للتعاون مع إيران وإشراكها في مسار البحث عن حلول سياسية للأزمات الإقليمية التي تعتصر المنطقة .... حسناً، ولكن من الذي يعيق مشاركة إيران في عمليات البحث والتنقيب عن حلول سوريا لهذه الأزمات، وبالذات في سوريا؟ ... لا توجد في العالم كله سوى دولتين اثنتين، ترفضان أي دور لإيران على موائد الحوار والتفاوض، وقد صادف أنهما حليفتان كبريان لواشنطن: إسرائيل والسعودية ... فكيف يمكن للولايات المتحدة أن تترجم سياساتها واستراتيجياتها، طالما أنها تواجه من المصاعب مع أصدقائها وحلفائها، ما يفوق تلك التي تواجهها مع خصومها ومساجليها.
يعيدنا ذلك كله، عقد ونصف العقد إلى الوراء، عندما ضُربت واشنطن ونيويورك بزلزال الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، الزلزال الأكبر بعد بيرل هاربر، يومها وجدت الولايات المتحدة نفسها في مأزق مع حلفائها الأقربين، بعد أن ثبت لديها أنه بوجود أصدقاء من ذاك النوع، لا حاجة لها بالإعداء ... يومها بدأ التفكير السياسي الأمريكي بالانعطاف، وخرجت علينا أصوات أمريكية عديدة تدعو لتجفيف منابع التطرف والإرهاب، وصادف أن هذه «المنابع» تقع جميعها أو معظمها على الأقل، في أحضان حلفاء واشنطن وأصدقائها ... لكأننا بالتاريخ يعيد نفسه مرة أخرى، ولكن بصورة تجمع المأساة والملهاة معاً.
«تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى»، وصفٌ دقيق لحال التحالف الدولي بقيادة واشنطن ضد الإرهاب .... بيد أنه وصف يمتد إلى تحالفات ومحاور أخرى كذلك ... فمعسكر الاعتدال العربي/الإقليمي بات معسكرين، واحدٌ بقيادة مصر وتنضوي فيه كل من دولة الإمارات والأردن، والثاني بقيادة السعودية، ويضم قطر والإخوان المسلمين ومن خلفهم جميعاً: تركيا .... أما محور «المقاومة والممانعة» فهو ليس خروجاً على هذا الوصف والتوصيف، فمن قال إن إيران وروسيا على قلب «دولة واحدة»؟ ... ومن قال أن العراق تموضع في خنادق هذا المحور؟ ... من قال أن دمشق وطهران وموسكو لديهم ما يكفي من المشتركات، ما يكفي لجعلهم قادرين على اجتياز مرحلة الانتقال السياسي لسويا؟ ... جميع هذه المحاور والتحالفات، تبدو متماسكة في الظاهر، بيد أنها «مُحتربة على نفسها من الداخل، ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب.