عريب الرنتاوي
إذا كانت “التسريبات” والتصريحات الأمريكية قد وضعت القضية الفلسطينية في “البراد” لعامين قادمين على أقل، بانتظار رئيس جديد وإدارة جديدة، فإن نتنياهو في تصريحاته الأخيرة في واشنطن، يذهب أبعد من ذلك، إذ يشدد على “أن لا سلام ولا انسحاب” قبل عشرين عاماً... لكأن السنة عند نتنياهو بعشر سنوات مما تَعد الإدارات الأمريكية.
نتنياهو، تلميذ بيغن وشامر النجيب، يواصل ما فعله الآباء المؤسسون لليكود الإسرائيلي ... هل تذكرون “تعهد” شامير عشية مؤتمر مدريد، عندما توعد بإغراق العرب في مفاوضات لعشر سنوات قادمة ... لقد صدق شامير وعده، وزاد عليه عشر سنوات أخر ... وليس ثمة ما يمنع الاعتقاد بأن نتنياهو سيحفظ وعده، ويغرق المنطقة في سنوات عشرين من المراوغة والمماطلة والقضم المتدرج للأرض والحقوق والمقدسات.
كل هذه الخلفية، لم تمنع رئيس الوزراء الإسرائيلي من الإعراب عن تأييده لـ “حل دولتين لشعبين” أمام سيّد البيت الأبيض، ولم لا يفعل ذلك، طالما أنها “كلمة لا تقدم ولا تؤخر”، ولا معنى حقيقياً لها، سوى المزيد من تكريس الدولة الوحيدة القائمة فعلياً على الأرض، “دولة جميع أبنائها اليهود” ... أما دولة الفلسطينيين، فقد أصبحت منذ اليوم، وليس بعد عشرين سنة، وراء ظهورنا ... لكن لا بأس من تكرار مثل هذه الجمل الفارغة، طالما أنها تثير ارتياحاً في أوساط محدثيه ومستمعيه من صناع القرار والنخب المتنفذة في الولايات المتحدة.
أحسب أن نتنياهو بتصريحاته تلك، لم يكن يعبر عن وجهة نظر شخصية أو حزبية أو حتى حكومية فحسب، بل كان يقرأ في ثنايا المشهد السياسي والاجتماعي الإسرائيلي الراهن، وما تعتمل فيه من “انزياحات” منهجية منظمة، صوب التطرف القومي الاستئصالي والتشدد الديني الأصولي ذي الصبغة “الداعشية”، فضلاً بالطبع عن تنامي الثقل المهيمن لـ “لوبي المستوطنات والمستوطنين” في مؤسسات صنع القرارات والسياسات والتشريعات في إسرائيل.
وأحسب كذلك، أن الرجل كان صريحاً بما يكفي للبوح بـ”الحقائق الإسرائيلية” التي يجهد كثيرٌ من الفلسطينيين والعرب لتجاهلها وإغماض الأعين عنها، ولأسباب تتعلق أساساً بعجزهم عن التفكير، مجرد التفكير، بخيارات وبدائل من خارج الصندوق الذي وجدوا أنفسهم في داخله طوال السنوات العشرين الفائتة ... فلكل الذين لا يرون غير المفاوضات طريقاً، تبدو مكاشفات نتنياهو أمراً صادماً للغاية.
بعد ما يقرب من ربع قرن على مؤتمر مدريد، وأكثر من عشرين على أوسلو وقيام السلطة، ها هو نتنياهو يقترح تمديد هذا المسار لعشرين سنة قادمة، من دون أن تصدر عنه إشارة واحدة، للبرهنة على أن العقدين القادمين، سيحملان في طياتهما شيئاَ مختلفاً عما حمله وجاء به، العقدان الفائتان ... ومع ذلك، فإن المطلوب من الفلسطينيين، تصديق نتنياهو، والصبر على خططه بعيدة الأجل، وممارسة أعلى درجات ضبط النفس، والانضباط لإيقاع السياسات والمصالح الإسرائيلية.
وإذ تزامنت تصريحات الرجل مع الكشف عن قرارات استيطانية بالجملة والمفرق في الضفة والقدس، وعن مخططات بعشرات ألوف الوحدات الاستيطانية التي سيجري زرعها في قلوب الفلسطينيين وفوق صدورهم ... إذ تزامنت مع دخول “القضاء الإسرائيلي” على خط الحرب العنصرية ضد “أطفال الحجارة” ومنحه الحكومة ضوءاً أخضر بتهديم منازل ذويهم، فإن الأعمى قبل البصير، سيرى إلى صورة الأراضي المحتلة في ختام سنوات نتنياهو العشرين، وسيدرك تمام الإدراك، بأن الرجل يسعى في شراء الوقت والهدوء، لتنفيذ مشروعه بابتلاع الأرض والحقوق الفلسطينية، بأقل قدر من التكاليف.
والمؤسف، أن كل هذه المواقف والممارسات والسياسات، وعلى الرغم من صلافتها وعدائيتها، لم تصبح كافية بعد، لتغيير “المسار الاستراتيجي” للحركة الوطنية الفلسطينية، فلا مراجعات تجري على ضفتي الانقسام الفلسطيني، ولا حوارات وطنية تتناول المستقبل بخياراته وبدائله، ولا إرهاصات على تغيير يمكن أن يشق طريقه إلى صفوف المؤسسات والمنظمات والفصائل الفلسطينية ... ولولا هذه “المبادرة التاريخية” لشبان وفتيان أخذوا على عاتقهم إلقاء حجر في مستنقع الركود الفلسطيني، لقلنا أن المشهد الفلسطيني برمته، يكاد يتكيف مع “واقع الحال” الإسرائيلي، وينضبط لمخرجاته. -
إذا كانت “التسريبات” والتصريحات الأمريكية قد وضعت القضية الفلسطينية في “البراد” لعامين قادمين على أقل، بانتظار رئيس جديد وإدارة جديدة، فإن نتنياهو في تصريحاته الأخيرة في واشنطن، يذهب أبعد من ذلك، إذ يشدد على “أن لا سلام ولا انسحاب” قبل عشرين عاماً... لكأن السنة عند نتنياهو بعشر سنوات مما تَعد الإدارات الأمريكية.
نتنياهو، تلميذ بيغن وشامر النجيب، يواصل ما فعله الآباء المؤسسون لليكود الإسرائيلي ... هل تذكرون “تعهد” شامير عشية مؤتمر مدريد، عندما توعد بإغراق العرب في مفاوضات لعشر سنوات قادمة ... لقد صدق شامير وعده، وزاد عليه عشر سنوات أخر ... وليس ثمة ما يمنع الاعتقاد بأن نتنياهو سيحفظ وعده، ويغرق المنطقة في سنوات عشرين من المراوغة والمماطلة والقضم المتدرج للأرض والحقوق والمقدسات.
كل هذه الخلفية، لم تمنع رئيس الوزراء الإسرائيلي من الإعراب عن تأييده لـ “حل دولتين لشعبين” أمام سيّد البيت الأبيض، ولم لا يفعل ذلك، طالما أنها “كلمة لا تقدم ولا تؤخر”، ولا معنى حقيقياً لها، سوى المزيد من تكريس الدولة الوحيدة القائمة فعلياً على الأرض، “دولة جميع أبنائها اليهود” ... أما دولة الفلسطينيين، فقد أصبحت منذ اليوم، وليس بعد عشرين سنة، وراء ظهورنا ... لكن لا بأس من تكرار مثل هذه الجمل الفارغة، طالما أنها تثير ارتياحاً في أوساط محدثيه ومستمعيه من صناع القرار والنخب المتنفذة في الولايات المتحدة.
أحسب أن نتنياهو بتصريحاته تلك، لم يكن يعبر عن وجهة نظر شخصية أو حزبية أو حتى حكومية فحسب، بل كان يقرأ في ثنايا المشهد السياسي والاجتماعي الإسرائيلي الراهن، وما تعتمل فيه من “انزياحات” منهجية منظمة، صوب التطرف القومي الاستئصالي والتشدد الديني الأصولي ذي الصبغة “الداعشية”، فضلاً بالطبع عن تنامي الثقل المهيمن لـ “لوبي المستوطنات والمستوطنين” في مؤسسات صنع القرارات والسياسات والتشريعات في إسرائيل.
وأحسب كذلك، أن الرجل كان صريحاً بما يكفي للبوح بـ”الحقائق الإسرائيلية” التي يجهد كثيرٌ من الفلسطينيين والعرب لتجاهلها وإغماض الأعين عنها، ولأسباب تتعلق أساساً بعجزهم عن التفكير، مجرد التفكير، بخيارات وبدائل من خارج الصندوق الذي وجدوا أنفسهم في داخله طوال السنوات العشرين الفائتة ... فلكل الذين لا يرون غير المفاوضات طريقاً، تبدو مكاشفات نتنياهو أمراً صادماً للغاية.
بعد ما يقرب من ربع قرن على مؤتمر مدريد، وأكثر من عشرين على أوسلو وقيام السلطة، ها هو نتنياهو يقترح تمديد هذا المسار لعشرين سنة قادمة، من دون أن تصدر عنه إشارة واحدة، للبرهنة على أن العقدين القادمين، سيحملان في طياتهما شيئاَ مختلفاً عما حمله وجاء به، العقدان الفائتان ... ومع ذلك، فإن المطلوب من الفلسطينيين، تصديق نتنياهو، والصبر على خططه بعيدة الأجل، وممارسة أعلى درجات ضبط النفس، والانضباط لإيقاع السياسات والمصالح الإسرائيلية.
وإذ تزامنت تصريحات الرجل مع الكشف عن قرارات استيطانية بالجملة والمفرق في الضفة والقدس، وعن مخططات بعشرات ألوف الوحدات الاستيطانية التي سيجري زرعها في قلوب الفلسطينيين وفوق صدورهم ... إذ تزامنت مع دخول “القضاء الإسرائيلي” على خط الحرب العنصرية ضد “أطفال الحجارة” ومنحه الحكومة ضوءاً أخضر بتهديم منازل ذويهم، فإن الأعمى قبل البصير، سيرى إلى صورة الأراضي المحتلة في ختام سنوات نتنياهو العشرين، وسيدرك تمام الإدراك، بأن الرجل يسعى في شراء الوقت والهدوء، لتنفيذ مشروعه بابتلاع الأرض والحقوق الفلسطينية، بأقل قدر من التكاليف.
والمؤسف، أن كل هذه المواقف والممارسات والسياسات، وعلى الرغم من صلافتها وعدائيتها، لم تصبح كافية بعد، لتغيير “المسار الاستراتيجي” للحركة الوطنية الفلسطينية، فلا مراجعات تجري على ضفتي الانقسام الفلسطيني، ولا حوارات وطنية تتناول المستقبل بخياراته وبدائله، ولا إرهاصات على تغيير يمكن أن يشق طريقه إلى صفوف المؤسسات والمنظمات والفصائل الفلسطينية ... ولولا هذه “المبادرة التاريخية” لشبان وفتيان أخذوا على عاتقهم إلقاء حجر في مستنقع الركود الفلسطيني، لقلنا أن المشهد الفلسطيني برمته، يكاد يتكيف مع “واقع الحال” الإسرائيلي، وينضبط لمخرجاته.