عريب الرنتاوي
تضطلع موسكو بدور محوري في تعبيد طريق الحل السياسي للأزمة السورية، الوفود تتقاطر إليها من كل العواصم ذات الصلة ... يبدو أن المعلومات التي تحدثت عن “تفويض” أمريكي لروسيا القيام بهذا الدور، تكتسب صدقيّة يوما بعد آخر.
ولضمان النجاح في مسعاها لتظهير الحل التوافقي لواحدة من أعقد أزمات المنطقة وأكثرها تشابكاً، تحتفظ العاصمة الروسية بعدة أوراق تتحفظ على كشفها... فهي من جهة، تطور علاقات وثيقة مع دول عربية وإقليمية، خليجية بخاصة، غير مسبوقة، وبصورة أوحت لبعض المراقبين، بأن سيد الكرملين ينوي نقل بندقيته من كتف إلى كتف... وهي من جهة ثانية، تصمت عن “الكلام المباح” كلما جاء الحديث على ذكر “مستقبل الأسد في سوريا الجديدة”، مكتفية بالتأكيد على المواقف الدبلوماسية العمومية، التي تبقي الباب مفتوحاً لكل الخيارات والاحتمالات... وهي من جهة ثالثة، لم تعد تنضبط لمعايير النظام السوري ومقاييسه في اختيار المعارضات التي يتعين إدماجها في مفاوضات الحل النهائي، ففتحت على الجميع، باستثناء “داعش” و”النصرة” ومن سار على دروب السلفية الجهادية المتطرفة.
في المعلومات أن جون كيري حث روسيا في لقاء “سوتشي” الشهير، على القيام بدور قيادي لتهيئة ظروف استئناف “موسكو 3” أو “جنيف 3”، بيد أنه أوصى الرئيس الروسي بضرورة تنسيق الجهود والتحركات الروسية مع كل من إيران وتركيا والسعودية، باعتبارها أطرافاً مؤثرة في قرار الحرب والسلام في سوريا ... الكرملين لم يكن ينتظر توصية من الخارجية الأمريكية للقيام بهذا الدور، فهو كان قطع شوطاً كبيراً في تطوير علاقاته مع كلٍ من الرياض وأبو ظبي وأنقرة والقاهرة وعمان، أما علاقاته مع طهران ودمشق فهي متطورة إلى الحد الذي يجعل من موسكو العاصمة الدولية الأكثر قدرة على تدوير الزوايا الحادة في مواقف الدولتين الحليفتين.
والأزمة السورية، كانت محور المحادثات التي أجراها “القيصر” على هامش معرض “ماكس” للصناعات الدفاعية، مع قادة عرب ثلاثة، لهم أدوار متفاوتة في الأزمة السورية... والأهم، أن موسكو ستستقبل تباعاً مزيداً من الأطياف السورية المعارضة، بمن فيها المسلحة منها، في سابقة هي الأولى من نوعها... وقبل هذا وذاك، كانت موسكو عرّاب الوساطة بين الرياض ودمشق، وزيارة اللواء علي مملوك إلى الرياض، كانت ثمرة لهذه الوساطة، بصرف النظر عن النتائج التي انتهت إليها الزيارة... ومن المتوقع أن يحمل الحراك الروسي في طيّاته المزيد من المفاجآت في قادمات الأيام.
الحراك الروسي النشط على خط الأزمة السورية، أثار قدراً من التفاؤل في عديد الأوساط السياسية والدبلوماسية في عواصم المنطقة والعالم المعنية مباشرة بالملف السوري... إيران نشطة في الحديث عن حل سياسي وقدمت لهذا الغرض مبادرة النقاط الأربع... تركيا عدّلت من لهجة خطابها حيال سوريا ووزير خارجيتها يأمل أن تكون الضربات العسكرية التركية – الأمريكية المنسقة، بمثابة رسالة للأسد للانخراط في الحل السياسي، هنا يلاحظ غياب لغة الشروط المسبقة وإسقاط الأسد والصلاة في المسجد الأموي في دمشق... باريس التي تقود التيار الدولي “الصقري” ضد الأسد، ما زالت تتحدث عن “تحييده” متفائلة بـ “الإشارات” على الانتقال السياسي... نبيل العربي من على رأس الجامعة العربية، متفائل بالحل السياسي ومستعد للقاء وليد المعلم في أي زمان ومكان... مصر انتقلت من “جس النبض” إلى “التنسيق الأمني” مع دمشق، وسط ارتياح سوري ظاهر، وحديث عن تطورات محتملة في ملف العلاقات الثنائية، وأنباء من المعارضة السورية عن سلاح من تصنيع مصري استخدمه الجيش السوري مؤخراً... أما لبنان الذي طالما نظر المراقبون إليه بوصفه “بورصة المشهد الإقليمي”، فلأول مرة منذ عام تقريباً تقول أوساطه، بأن الباب بات “موارباً” أمام “صفقة” انتخاب رئيس جديد للجمهورية على وقع هذه التطورات المتفائلة على المسار السوري، والتي انتعشت كثيراً بفعل الحراك الدبلوماسي الروسي.
لا يعني ذلك كله، أن الحل بات على مرمى حجر، وأن طريقه أصبحت سالكة وآمنة... بيد أن زخم الحراك الدبلوماسي يحمل في طياته فرصاً لم تتوفر طوال السنوات الخمس الفائتة، وربما هذا ما شجع ديمستورا على الشروع في “غربلة” الأسماء التي ستشارك من السلطة والمعارضة، في اجتماعات اللجان/ المسارات الأربعة التي حددها في تقريره لمجلس الأمن، وهذا ما شجعه أيضاً على طرح فكرة “مجموعة الاتصال الدولية حول سوريا” والمقترح أن تضم في صفوفها الدول الخمس الكبرى فضلاً عن السعودية ومصر وتركيا وإيران، ودول أخرى كذلك ... وإذا ما قُدّر للموفد الدولي أن ينجح في تشكيل هذه المجموعة، فمعنى ذلك أن إطار “أصدقاء سوريا” سيدفن رسمياً، بعد أكثر من عام من الوفاة السريرية.
موجة التفاؤل هذه، لا تقابلها في سوريا سوى أكثر التعليقات تحفظاً وأحياناً تشاؤماً ... المعارضة في إسطنبول ما زالت تجتر خطابها القديم بانتظار التعليمات من العواصم الراعية الثلاث: الرياض، الدوحة وأنقرة ... الرئيس الأسد بدا متشائماً، وأحسب أن تشاؤمه يعود لسببين: الأول، أنه لا يريد، وجيشه في ذروة المعركة أن يترك انطباعاً بالاسترخاء والتراخي، والثاني، أن بعض عناصر الحل المقترح، والتي جاءت على ألسنة حلفائه بالذات، أغضبته وأثارت مخاوفه، ومن بينها تأييد روسيا والصين للبيان الرئاسي الصادر عن مجلس الأمن حول مهمة ديمستورا، ونقطتان من أصل أربع نقاط تضمنتها المبادرة الإيرانية، واحدة تتعلق بتعديل الدستور والثانية تتحدث عن انتخابات برعاية دولية.
في المقابل، تبدو السعودية على تشددها الظاهر في الملف السوري، مع أن هذا الملف بات يكتسب أهمية متراجعة بالنسبة للرياض المنهمكة من الرأس حتى أخمص القدمين في اليمن، لكن يخطئ من يقلل من مغزى ومعنى زيارة مملوك غير الناجحة للرياض، ويخطئ من يظن أن التطورات المحيطة بالقرار السعودي، لا تساعد على التفكير بإدامة الأزمة بأكثر مما ينبغي في سوريا، فاليمن سيبقى حتى إشعار آخر، جرحاً نازفاً، وهبوط أسعار النفط، يستنزف الاحتياط السعودي من العملات الصعبة والسهلة، حتى إشعار آخر كذلك.
روسيا تقود التحرك الدبلوماسي في سوريا، نيابة عن العالم والإقليم، والتطورات ترفع منسوب التفاؤل والأمل بفرص حل سياسي لم تكن متوفرة من قبل، لكن مشوار سوريا نحو الحل السياسي النهائي، ما زال مديداً ومريرا.