عريب الرنتاوي
قبل التدخل العسكري الروسي في سوريا، كانت طهران، وليست موسكو، هي العاصمة الأكثر نفوذاَ في دمشق ... أذكر حواراً مع ديبلوماسي روسي ذات يوم، عرضت خلاله لفكرة “الضغط” على النظام لإجراء بعض الإصلاحات التي تمهد الطريق للمصالحة والحل السياسي ... ابتسم الديبلوماسي قائلاً: وهل تعتقد أننا في وضع يمكننا من ممارسة مثل هذه الضغوط، يبدو أن كثيرين، يبالغون في تقدير حجم النفوذ الروسي في السياسة وصنع القرار السوريين.
اليوم، اختلفت الصورة، وتبدلت معها موازين القوة والتأثير، موسكو وليست طهران، هي من تمتلك أكثر الأوراق وأوزنها، وبدل أن يكون الأسد هو “الضامن الأكبر”، وربما الوحيد، للمصالح الروسية في سوريا وعلى الشاطئ الشرقي للمتوسط، بات الرئيس فلاديمير بوتين، هو “الضامن الأكبر” لمستقبل الأسد، حتى لا نقول مستقبل سوريا برمتها ... لم تعد موسكو بحاجة للأسد لضمان مصالحها في سوريا، بعد أن تولت هي المهمة، مباشرة، ومن دون وسطاء محليين أو إقليميين.
بين موسكو وطهران، مروحة واسعة من المصالح والأهداف المشتركة في سوريا، منها حفظ البلاد والنظام والدولة والرئيس، وهذه تكفل استمرار التنسيق والتعاون والشراكة إلى حين، بيد أن للعاصمتين مواقف ومصالح متضاربة كذلك، تجعل المهمة محفوفة بالتحديات ومفتوحة على شتى الاحتمالات، روسيا ليست مهتمة بدور سوريا كشريان حياة يربط طهران بحزب الله في لبنان، ولا هي معنية بـ “المقاومة والممانعة”، وليست مهجوسة بأمر فتح جبهات جديدة مع إسرائيل ... هنا تفترق الأجندات ... ولهذا السبب يبدو “الحذر” سيد المواقف الإيرانية، وتحرص طهران على استبعاد فكرة “التحالف الاستراتيجي” مع موسكو، وتتحاشى الأخيرة، أية مبالغات في تصوير طبيعة علاقاتها الممتدة من طهران حتى الضاحية الجنوبية، مروراً ببغداد ودمشق.
مثل هذا المطالعة، تبدو ضرورية لفهم الجدل الدائر على شتى الصعد ومختلف المستويات، بخصوص الحل السياسي للأزمة السورية، ومصير الرئيس الأسد، ودوره في مستقبل سوريا ... وآخر جولة من جولات الجدل، تلك التي دارت أمس الأول، على هامش “الفورميولا 1” في روسيا، والمحادثات التي أجراها “القيصر” مع أقوى رجلين في الخليج العربي: محمد بن سلمان ومحمد بن زايد، حيث بدا أن روسياً أبعد ما تكون عن العزلة والقطيعة، كما توقع البعض، وتأكد بالملموس، أن فرص التعاون بين روسيا وألد خصوم النظام، ما زالت مفتوحة.
ووفقاً لبعض ما رشح من قراءات ومعلومات حول المحادثات الروسية – السعودية، فإن بالإمكان التهكن بأن الفجوة التي تباعد ما بين الرياض وموسكو، قد تقلصت ولم تردم ... فالجانبان يتحدثان بلغة واحدة عن أهمية المصالحة وحكومة الشراكة بين النظام والمعارضة، ومرحلة انتقالية، السعودية، لا ترى للأسد دوراً في نهايتها، وليس في بدايتها، فيما موسكو، ما زالت تبقي “ورقة الأسد” طي الكتمان، ولن تكشف عنها في هذه المرحلة الحساسة على أية حال.
من الواضح تماماً، أن الكرملين، يعطي الأولوية الآن للميدان، لا شيء يتقدم سلم أولوياته، سوى تحقيق اختراق عسكري واسع، يعطي معنى ونتيجة لجهده العسكري الكثيف والمفاجئ، وبعد ذلك لكل حادث حديث ... البعض يقرأ في هذا “الغموض” الروسي، موقفاً مضمراً، يريد أن يحمل الأسد و”يعوّمه” على سطح الإنجازات العسكرية الميدانية ... البعض الآخر، يرى أنه غموض مقصود، فالمعركة مع داعش وأخواتها، ما زالت في بدايتها، وإي حديث عن تغيير في الموقف الروسي من الأسد، سينعكس وبالاً على سير المعارك، وقد يستثير عاصفة من الرياح لا تشتهيها سفن الكرملين.
لكن الباب ما زال مفتوحاً أمام سيناريو، لطالما رجحناه، قبل التدخل الروسي وبعده، ويتمثل في دعم روسي قوي لعملية سياسية انتقالية، تحفظ الدولة ومؤسساتها، وتبقي سوريا قطعة واحدة، وتكفل بقاء النظام الذي لم يعد أحد يطالب بإسقاطه على أية حال، اما نهاية هذه العملية، فمفتوحة، وقد تؤول إلى رحيل الأسد، بصورة لائقة، بعد توفير شبكة أمان صلبة، لسوريا والنظام والرئيس والحلقة المقربة منه.
مهما قيل عن تحولات وتبدلات في مواقف الأسرة الدولية والعربية، من الأزمة السورية، فإن الأمر الذي نقاش فيه، أن ثمة ما يشبه الإجماع الدولي، على الالتزام بوحدة سوريا وبقاء النظام والدولة والمؤسسات ... وثمة تيار إقليمي - دولي متنامٍ، لا يمانع في رؤية دور للأسد في مستقبل سوريا، ولكن في إطار المرحلة الانتقالية فحسب، لا أحد يرغب في رؤية الأسد يجدد ولايته الدستورية، المرة تلو الأخرى، بل ولا أحد يريد أن يقرأ اسمه في لائحة المرشحين لانتخابات الرئاسة المبكرة، التي عرضتها إيران وتبنتها روسيا، ودرجت ضمن أطر ومراحل الحل السياسي للأزمة السورية، وعلى كل لسان تقريباً.
عند هذه النقطة بالذات، لن تستطيع موسكو أن تقامر بمنجزاتها السورية والمشرقية، ولن تجازف بخوض حرب مفتوحة على الأرض السورية لسنوات طويلة قادمة، ولن تفرط بشبكات المصالح المعقدة التي نسجتها مع دول المنطقة، من دول الخليج إلى تركيا، مروراً بإسرائيل، وغيرها من دول المنطقة ... موسكو تستطيع أن تحمل الأسد على أكتافها طوال المرحلة الانتقالية، لكن من الصعب تخيل أنها ستقوى على حمله، أبعد من ذلك أو أطول من ذلك.