توقيت القاهرة المحلي 09:34:45 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«الدب» والمياه الدافئة

  مصر اليوم -

«الدب» والمياه الدافئة

مصطفي الفقي

عندما كنا ندرس تاريخ العلاقات الدولية فى القرن التاسع عشر وما بعده كانت العبارة التالية تتردد فى معظم الكتب والدراسات المعنية بالسياسة الخارجية الروسيةــ قيصرية أو سوفيتيةـ (إن «الدب» يسعى إلى المياه الدافئة) لأن الذى يدرس الخريطة التى تحدد ملامح جغرافية «روسيا» سوف يكتشف أنها دولة قارية كبرى تشغل مساحة فى «شرق أوروبا» وتمتد فى «شمال آسيا» لتصل إلى حدود القوى الكبرى فى تلك القارة الضخمة وهى تعانى تاريخيًا وجغرافيًا من البحار المغلقة أو المياه المتجمدة لذلك فهى تسعى دائمًا نحو البحار المفتوحة وتتجه أحيانًا إلى الجنوب الشرقى ولكن دائمًا إلى الجنوب الغربى لعلها تصل إلى الشواطئ التى تسمح لها من النواحى الاستراتيجية أن تنتصر على الوضع «الجيوبوليتيكى» الذى فرضته الطبيعة عليها، وعندما هزمت «اليابان» «روسيا» عام 1905 تحطم الوهم الروسى فى الوصول إلى «بلاد الشمس المشرقة» ولكن ظل سعيها دؤوبًا للسيطرة على مناطق خارج حدودها ساعدها فى ذلك «الأيديولوجية الماركسية» والتبشير بـ«المجتمع الشيوعى» القادم فامتد نفوذها الكاسح فى شرق «أوروبا» ثم اتجهت «روسيا السوفيتية» بعد ذلك جنوبًا نحو «الشرق الأوسط» حيث فصلت إلى حد كبير بين «الأيديولوجية الماركسية» البحتة والتطبيق الاشتراكى المعتدل فحققت غزوًا ناجحًا لجيلين كاملين من أبناء المنطقة العربية إلى أن فتح لها الزعيم الراحل «جمال عبدالناصر» ساحة «الشرق الأوسط» من خلال البوابة المصرية وفى كل الأوقات كان حلم المياه الدافئة يراود العقل الروسى دون توقف، وقد جاء على «موسكو» حين من الدهر بدت فيه شاحبة متراجعة بعد سقوط «الاتحاد السوفيتى السابق» وساد إحساس دولى عام بأننا لو رفعنا الترسانة الهائلة للسلاح الروسى فإننا نكون أمام دولة من دول العالم الثالث ولم تعد «روسيا الاتحادية» ندًا لـ«الولايات المتحدة الأمريكية» لأكثر من عقدين أو ثلاثة من الزمان حيث انتقل العالم من «الثنائية القطبية» فى العلاقات الدولية إلى «نموذج القطب الواحد» وسلم الجميع بأن «الولايات المتحدة الأمريكية» هى القوة الوحيدة الأعظم فى الكون، وبدون مقدمات طويلة برزت شخصية أسطورية على المسرح الروسى وأعنى بها ضابط الاستخبارات السابق «فلاديمير بوتين» الذى استطاع أن يعيد لـ«روسيا» هيبتها وأن يزاحم سياسات «واشنطن» بل وتمكن فى النهاية من كشف جزء من أوهام السياسة الأمريكية على نحو هز ثقة بعض حلفائها بها ولعل المشهد الحالى فى «الشرق الأوسط» هو خير شاهد على ما نقول فقد تمكنت «موسكو» ببراعة خاطفة من أن تسرق الأضواء وأن تجعل التركيز على ما تقوم به كما لو كان هدفًا دوليًا وإقليميًا بالرغم من أنه يحقق فى الأصل هدفًا روسيًا بحتًا، فالطيران الروسى الذى يدك القواعد العسكرية ومراكز التسليح لتنظيم «داعش» الإرهابى لا يفعل ذلك من أجل عيون شعوب المنطقة وأمنها واستقرارها فقط ولكنه يسعى إلى ضرب المعارضة السورية والإجهاز عليها والتمكين لنظام «بشار الأسد» باستعادة ما فقده من أراضٍ ومدن لأن «موسكو» مازالت تراهن على «نظام الأسد» باعتباره الضامن الباقى للنفوذ الروسى «شرق البحر المتوسط» والذى يفتح لقاعدتها البحرية موقعًا على المياه الدافئة فليس يعنى «موسكو» أن تظل «سوريا» دولة متماسكة موحدة ولكن الذى يعنيها هو أن يظل نظام «الأسد»ــ أو أقرب بديل إليه ــ ضامنًا للمصالح الروسية مع التواجد فى المياه الدافئة لـ«البحر الأبيض»، و«بوتين» يدرك أن «إيران» تبارك فى صمت ما يفعل، وأن «تركيا» ترفض فى صخب ما يقوم به! ولكنه يدرك أيضًا أن «الولايات المتحدة الأمريكية» لن تسعى إلى مواجهة معه بسبب ضعف مصداقيتها فى المنطقة وترددها الطويل فى مواجهة تنظيم «داعش» الذى لم تواجهه بحزم منذ البداية ربما لأنها شاركت من قبل فى صنعه! أما الدول العربية الأخرى فهى تتوافد على العاصمة الروسية تباعًا اعترافًا بدورها وتسليمًا بأهميتها، و«الدب الروسى» صاحب «اليد الثقيلة» يدرك جيدًا أن تنظيم «داعش» الإرهابى إنما يتكون فى أساسه من فلول الجيش العراقى عندما فعل القائد الأمريكى «بريمر» جريمته التاريخية بحل ذلك الجيش بعد الغزو مباشرة يضاف إليه مجموعة كبيرة من محاربى «الشيشان» الذين يستهدفهم «بوتين» ويتعقبهم فى كل مكان، فـ«الدب الروسى» لم يقدم على المغامرة العسكرية الضخمة لكى يفتح مستنقعًا يغرق فيه ولكنه يسعى إلى تكريس دوره فى المنطقة وفرض سيطرته على أطرافها واستعادة دور «روسيا» الدولى من خلال بوابة «الشرق الأوسط» بعدما حاول ذلك منذ سنوات قليلة من خلال بوابة الجوار المباشر فيما يسمى بالصراع حول «القرم»، إن «بوتين» الذى افتتح أكبر مسجد إسلامى فى «أوروبا» منذ أسابيع فى «موسكو» لا يعادى «الإسلام» دينًا ولكنه يرفض توظيفه كسياسة تعادى البشر فى كل مكان، فالإسلام أعظم وأرفع وأكبر من أن تقيم باسمه جماعة إرهابية دولة تنسب نفسها إلى ذلك الدين الحنيف، إنه «الدب» الذى يسعى إلى المياه الدافئة يغلف أهدافه القومية بمبادئ دولية ومصالح إقليمية ويطرح مبدأ حماية أقليات «شرق أوسطية» عانت كثيرًا فى السنوات الأخيرة.. إن «الدب» قد دوخ الغرب «فى حربين عالميتين ووضع» الإمبراطورية العثمانية «فى حجمها الطبيعى وظل دائمًا ينظر إلى المنطقة العربية فى رغبة كامنة وتطلع حذر لأنه لا ينسى أبدًا أهمية موقعها الجغرافى وإطلالتها على البحر الدافئ المفتوح فضلًا عن قيمتها الاستراتيجية المتزايدة فى أعين «الغرب» وحلفائه، ولا يخالجنى شك فى أن «الدب الروسى» ليس من السذاجة بأنه لم يخطر «إسرائيل» بعملياته العسكرية لأنها طرف فاعل فى تلك المنطقة شديدة الحساسية بالغة التعقيد، لقد وصلنا إلى مشهد جديد حيث يتوارى «النمر الأمريكى»، ويصمت «الفيل الصينى» ليسيطر «الدب الروسى»!

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«الدب» والمياه الدافئة «الدب» والمياه الدافئة



GMT 07:12 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

سيد... والملّا... والخاتون

GMT 07:10 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

زيارة محمّد بن زايد للكويت.. حيث الزمن تغيّر

GMT 07:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

غلق مدرسة المستقبل

GMT 07:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

إنَّ الكِرَامَ قليلُ

GMT 07:08 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب الثاني... وقبائل الصحافة والفنّ

GMT 07:07 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

مع ترمب... هل العالم أكثر استقراراً؟

GMT 07:06 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب... ومآلات الشرق الأوسط

GMT 07:05 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

اللغة التى يفهمها ترامب

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 22:43 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته
  مصر اليوم - عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته

GMT 09:44 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

جورج وأمل كلوني يحتفلان بذكرى زواجهما في أجواء رومانسية

GMT 12:02 2024 السبت ,07 أيلول / سبتمبر

نصائح وأفكار لإطلالات أنيقة ومتناسقة

GMT 20:58 2016 الجمعة ,28 تشرين الأول / أكتوبر

لجان البرلمان المصري تستعد لمناقشة أزمة سورية

GMT 23:21 2018 الأربعاء ,21 آذار/ مارس

تعرفي على خطوات للحفاظ على "لون الصبغة"

GMT 23:40 2018 الأحد ,04 آذار/ مارس

تعرف على سعر ومواصفات سكودا كودياك 2018

GMT 19:31 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الشرطة تكشف تفاصيل تجريد أستاذ جامعي من ملابسه

GMT 18:47 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

شركة فيات كرايسلر تكشف عن تراجع ديونها بمقدار النصف
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon