مصطفي الفقي
كتبت مقالاً منذ عدة أسابيع فى هذا المكان بعنوان (طريق الحرير وقطار الشرق السريع)، وها أنا أعود إلى ذلك الموضوع مرة أخرى بمناسبة زيارة الرئيس «السيسي» لجمهورية «الصين» ذات المليار ونصف المليار نسمة، وصاحبة أكبر كم من الإنتاج الصناعى فى العالم المعاصر، والتى تغزو المراكز الاقتصادية الدولية والأسواق العالمية بل مراكز صنع القرار الوطنية، إنها «الصين» ذات النفوذ الكبير فى القارة الأفريقية فضلاً عن قارتها الآسيوية، ويكفى أن نتذكر أن «مليون شاب أوروبى» يدرسون اللغة الصينية حاليًا حتى إن بعض رجال الأعمال الكبار قد اشترطوا على أبنائهم إذا أرادوا أن يرثوا ثرواتهم أن يتعلموا «اللغة الصينية»، إلى هذا الحد بات تأثير الصين كبيرًا فى عالم اليوم، وها أنا ألفت النظر إلى كيفية تحويل الكم السكانى إلى كيفٍ مؤثر بالتركيز على التصنيع الثقيل والخفيف والزراعة الكثيفة والعلاقة الوثيقة بالأرض مع الالتزام بنماذج محددة فى الإنتاج بكل مصادره، ومن المعروف أن منطقة «الهند الصينية» تمثل تنافسًا تاريخيًا بين الثقافتين «الهندية» و«الصينية»، وكلما اتجهنا شرقًا من الهند تزايد التأثير الصينى وتراجع الوجود الهندى والعكس بالعكس، إننى أقول ذلك حتى ندرك أن نظرية المجال الحيوى تعتمد على العامل الثقافى قبل غيره، وما أكثر المسميات لأدوات الحياة وعناصر الإنتاج التى تحمل أسماء تنتسب لدولة «التنين الأصفر»، وهنا أسوق الملاحظات الآتية:
أولاً: إن التحديث ليس دائمًا هو «التغريب» modernization is not always westernization فهناك تجارب كبرى فى الشرق، ولعل المثلث الآسيوى الكبير الذى تتكون أضلاعه من «إنتاج الصين» و«تكنولوجيا اليابان» و«غزو العمالة والثقافة الهندية» تمثل جميعها بؤرة التقدم ومركز الانطلاقة الكبرى خارج الغرب، وأولى بنا فى هذه المنطقة من العالم أن ننظر شرقًا إلى هذه التجارب الإنسانية الكبرى والواعدة فى ذات الوقت، خصوصًا أن ترحيبهم بنا أكبر من غيرهم فنحن جميعًا أمم «شرقية»، فضلاً عن غياب الضغوط السياسية المصاحبة للسياسات الغربية خصوصًا الأمريكية تجاه دول الجنوب ونحن فى مقدمتها.
ثانيًا: إن هناك تشابهًا تاريخيًا بيننا وبين التجارب الآسيوية الكبرى على نحوٍ يدفعنا إليهم ويدعو إلى ترحيبهم بنا، فضلاً عن رغبتهم فى تقديم المعونة الفنية لنا خصوصًا فى مجال التصنيع بغير قيدٍ أو شرط، ولقد رأيت مؤسسات مصرية فى القطاع الخاص نجحت فى استقدام خبراء من الهنود والصينيين فى مجالات مختلفة حتى قفزوا بتلك المؤسسات خطواتٍ واسعة إلى الأمام فى فترة قصيرة،
فضلاً عن أن تكاليف استخدامهم أقل من الغربيين بكثير، إننا أمام عالم مختلف وشعوبٍ صديقة طالما ارتبطنا بها وتعاونّا معها ولعلنا نذكر القول المأثور (اطلبوا العلم ولو فى الصين)، ونتذكر أيضًا سنوات العلاقة الوثيقة بين «مصر» و«الهند» خصوصًا فى عصر «نهرو»ـ «عبدالناصر» عندما كان التعاون التكنولوجى هو امتدادا طبيعيا للتقارب السياسى تحت مظلة حركة «عدم الانحياز» فى يومٍ كنَّا نشترك فيه مع «الهنود» فى تصنيع طائرة! فأين هم الآن وأين نحن؟!
لقد أصبحت الهند اليوم دولة نووية ودولة فضاء ودولة اكتفاء ذاتى من الحبوب الغذائية، فضلاً عن أنها أكبر ديمقراطيات العالم المعاصر، وقديمًا كان يتندر أجدادنا (أنا هندى!) وها هم الأحفاد يقولون ليتنا نكون مثل الهنود فى الجدية والمثابرة والاستمرار، لقد قضيت بينهم سنوات أربعا منذ عدة عقود وعرفت معهم معنى احترام الهوية والتركيز على الخصوصية التى تتميز بها الأمة الهندية رغم اختلاف اللغات والديانات والطبقات.
ثالثًا: إن «مصر» بالنسبة للقارة الآسيوية هى بوابة «أفريقيا» ومفتاح العالم العربى والنافذة التى يطلون منها على «البحر المتوسط» وجنوب «أوروبا» وهو ما يعنى جاذبية «مصر» للاستثمارات الآسيوية، خصوصًا من دولة «الصين» الكبرى، وقد أدركنا هذه الحقيقة حتى إننا قررنا تأجيل «المؤتمر الاقتصادى المصرى» حتى لا يتواكب انعقاده مع بداية السنة الجديدة فى التقويم الصينى ويحول دون وصول وفود ذلك البلد من الدولة وشركات القطاع الخاص أيضًا، ولا شك أن ذلك الاهتمام من جانبنا يقابله تقديرٌ من جانبهم، خصوصًا بعد الأحداث التى جرت فى «مصر» فى العامين الأخيرين، وإحساسهم بأن صفحة جديدة تبدأ فى العلاقات مع «القاهرة»، وجديرٌ بالذكر أن دولة «إسرائيل» قد أقامت فى العقود الأخيرة جسور علاقاتٍ متنامية مع تلك الدول، وهو ما يدعونا إلى المضى بخطوات ثابتة وسريعة نحو توثيق صلاتنا بدول آسيا الكبرى على جميع الأصعدة.
إن زيارة الرئيس «السيسى» لـ«بكين» هى خطوة أولى فى طريق «الألف ميل» تجاه الدولة التى يقول تراثها الشعبى (لا تعطنى سمكة ولكن علمنى الصيد!).