د. مصطفى الفقى
تحدثنا طويلاً عن سنوات الفرص الضائعة وكيف كان غياب الرؤية وقصر النظرة مع انعدام القدرة على الإمساك بالفرصة المتاحة من أجل المصلحة العليا للبلاد وتعظيم شأن الدولة سببًا فى ذلك عبر السنين الماضية، وقد حان الوقت لكى نخرج من عباءة ما مضى ولا نبقى فى جلباب عصرٍ ولى بعد أن انتهى عمره الافتراضي،
إننا نبشر بمستقبلٍ مختلف عمّا نحن عليه، مستقبل واعد ـ إذا ما خلصت النوايا وصدقت العزائم ـ إن الفرص القادمة يجب أن تكون تعويضًا عن الفرص الضائعة ومقدمةً لغاياتٍ محددة وأهدافٍ واضحة، إن ذلك فى ظنى يعتمد على المؤشرات التالية:
أولاً: يدهش كثير من الخبراء والمراقبين من التركيبة المصرية لبلدٍ فيه كل مقومات التقدم وعوامل النهضة ورغم ذلك فإنه يتجمد أحيانًا بل ويتراجع أحيانًا أخرى، ويظل المرء فى دهشة مستمرة أمام بلدٍ لديه من الموارد البشرية والطبيعية ما يدفعه دومًا إلى الأمام، إن مصر قد تعرضت لضغوطٍ عبر تاريخها الطويل وحكمت عليها الجغرافيا أن تكون حضارة ملتقى وبلدًا جاذبًا للهجرات البشرية بل وملاذًا لأصحاب القضايا العادلة والمظلومين فى كل مكان، ومع ذلك فإن هذا البلد العظيم تحيطه مشكلاتٌ بغير حدود ويتعرض لضغوط دون نهاية فضلاَ عن استهداف إقليمى ودولى يحاول تطويق مصر مدفوعًا بغيرة مكتومة وحقد لا مبرر له.
ثانيًا: إن لدى مصر أكبر مستودع بشرى معاصر فى المنطقة، إذ أن الله قد منحنا عبقرية الزمان والمكان وأيضًا عبقرية السكان لشعبٍ ذكى يتأقلم بسرعة مع الظروف المحيطة ويرحب بالأجنبى ترحيبًا غريزيًا ويلقى حبال المودة والمحبة لكل من يلتقطها، إنه البلد الذى علَّم الآخرين وطبب أشقاءه وأسهم فى البنية الأساسية لكل من استدعاه عربيًا وإفريقيًا بمنطقٍ عقلانيٍ وخلفية إنسانية عاطفية، كما كان الجيش المصرى هو رأس الحربة فى الدفاع عن الأرض العربية والمقدسات الإسلامية، ولماذا نذهب بعيدًا إنه الشعب الذى بنى الأهرامات وحفر قناة السويس وشيَّد السد العالى وهاهو يعود إلى قناته من جديد لتعظيم النفع منها وتحديث دورها فى الربط بين الشرق والغرب، إنه شعب العجائب وصانع المعجزات يطل على شاطئين طويلين لبحرين مفتوحين ولديه مقوماتٌ سياحية لا تدانيها مقومات دولة أخرى فضلاً عن أنه بلد زراعى عريق فلديه أيضًا العوامل المساعدة على قيام الصناعة الوطنية إذ أن العنصر البشرى المصرى متميز دائمًا فضلاً عن الوضع الجغرافى بما فى ذلك المناخ والتربة والتنوع البيئى للدولة المصرية، ففيها مجتمعات زراعية وأخرى صناعية وثالثة ساحلية ورابعة صحراوية بما يعطيها درجة عالية من التنوع الذى يجعلها قادرة على النهوض فى كل الأحوال، كما أنها تنتمى إلى إقليم البحر المتوسط بمناخه المعتدل وموقعه الجذاب وتنتمى أيضًا إلى القارة الإفريقية الأم التى ينساب منها النيل مصدر الحياة لمصر والمصريين، كما أنها عربية اللسان تحمل سبيكة ثقافية متميزة فضلاً عن انتماءٍ له خصوصيته مع العالم الإسلامي، ولاشك أن تلك التعددية الحضارية تجعل من هذا الوطن بلدًا يحتوى الفرص القادمة بعدما فقد الكثير فى عصورٍ سابقة نتيجة تجريف الكفاءات واستبعاد أصحاب القدرات وحرمان مصر من طاقتها البشرية الحقيقية.
ثالثًا: إن نجاح مصر فى تحقيق التوظيف الأمثل لمواردها البشرية والطبيعية هو عنصر حاكم فى تحديد صورة المستقبل والتركيز على الفرص القادمة والتمكين للعقل المعاصر الذى يعى التاريخ ويدرك الحاضر ويؤمن بالمستقبل، إذ أن إهدار الموارد والتفريط فيما تملكه الكنانة طبيعيًا وبشريًا كان ولايزال واحدًا من أسباب تخلفها وضعف رؤيتها، وإذا كنّا نمر الآن بمرحلة تحول مهمة فى مسيرة البلاد والعباد فإننا نتطلع إلى قرارٍ سياسى رشيد ينطلق من أسس موضوعية لا يحكمه الهوى ولا تحركه المحاباة لأنه يعتمد على قاعدة راسخة من العدالة الاجتماعية للقضاء على الصراعات الطبقية والطائفية وتؤدى إلى مصالحة شاملة بين الأجيال المختلفة.
رابعًا: إن التدريب المهنى واستعادة الحرف المصرية التقليدية لمكانتها القديمة هما أمران لازمان للولوج إلى طريق المستقبل، ولعلى أتذكر الآن أنه ذات يوم فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى أن جاءنى فى مكتبى بمؤسسة الرئاسة القنصل العام لدولة كوريا الجنوبية طالبًا رفع مستوى التمثيل بين الدولتين إلى سفارة! وأضاف القنصل العام: (أنه عند قبولكم لمطلبنا فإننا نتقدم لبلادكم بمنحةٍ مالية مقدارها 500 مليون دولار على شكل قرضٍ سعر فائدته واحد من عشرة بالمائة وذلك حتى تمر المنحة من البرلمان الكورى الجنوبي، كما أننا نريد منكم قطعة أرضٍ كبيرة ولتكن ألف فدان فى الصحراء نقيم عليها سويًا أكبر مركزٍ للتدريب المهنى فى الشرق الأوسط وربما فى العالم كله لتصدير العمالة المدربة من مصر إلى العالمين العربى والإفريقى فى مختلف التخصصات الفنية والفروع الحرفية، وسوف يكون لدولة كوريا الجنوبية نسبة محددة من عائد العمالة المصرية فى الخارج، وللدولة المصرية جزءٌ آخر واضعين فى الاعتبار أننا سوف ننهى بذلك مشكلة البطالة تمامًا فى مصر وندفع الشباب إلى ميادين العمل وفى ذلك دعمٌ للمستوى المعيشى ونوعية الحياة ودرجة الاستقرار السياسى فى بلدكم العربى الإفريقى الكبيرمصر) ولكن رد الفعل المصرى كان واحدًا من أكثر الفرص الضائعة إذ تم رفض العرض الكورى الجنوبى بدعوى مجاملة دولة كوريا الشمالية التى ساعدتنا بقطع غيار الطائرات فى حرب 1973، والغريب أننا أقمنا العلاقات الدبلوماسية الكاملة بعد ذلك بسنوات قليلة مع كوريا الجنوبية دون مقابل!
.. دعنا نكن صرحاء لنقول بكل وضوح إن سنوات الفرص القادمة سوف يرتبط النجاح فيها والإنجاز خلالها بتطور العملية التعليمية والاتجاه نحو تحديث التعليم والتركيز على البحث العلمي، فالتعليم هو بوابة العصر، وهو الطريق الوحيد للدخول إلى المستقبل الأفضل لوطنٍ عانى كثيرًا وشعبٍ ضحى طويلاً وحان الوقت كى يستريح!