بقلم - مصطفي الفقي
إن الخيال والتذكر أمران متشابهان، فالخيال يتعامل مع ما هو قادم والتذكر يتعامل مع ما مضى، وهما وجهان لعملة واحدة فى التكوين العقلى والترتيب الذهنى للإنسان السوى، لذلك ظلت علاقتى بالزمن علاقة تشوبها الألفة ويتحكم فيها إلى حد كبير مجموعة انطباعات لمشاهد منذ الطفولة، تظل راسخة فى العقل لصيقة بالوجدان، ولعل فترة دراستى الجامعية هى أكثرها خصوبة من حيث لا تأتى بعدها إلا مرحلتا بريطانيا والهند.
وإلى حد ما المرحلة النمساوية، فإذا بدأنا نتذكر المرحلة الجامعية، فقد كانت سنوات مخاض فكرى وتحول كبير فى تكوين جيلى كله الذى عاش مع أحداثها صعودًا وهبوطًا، وأتذكر اليوم من كلية الاقتصاد زميلين عزيزين، رحل أحدهما عن عالمنا، وهو ناجى منصور الذى شيّعناه من الكنيسة، ورفيق دربه الذى أصبح شخصية معروفة عندما تولى رئاسة نادى الزمالك وأعنى به الصديق ممدوح عباس.
وقد كانا معًا رفيقين لا يفترقان وبينهما صداقة لا تخلو من مقالب ومحبة لا تنتهى، ولقد كانا معًا مصدر حيوية وشغب فى أنشطة الكلية المختلفة، وبحكم رئاستى لاتحاد الطلاب، فكنت قريبًا من المغامرات والمسامرات التى يتزعمها الزميلان وحولهما مجموعة من أشقياء الكلية، يتصدرهم الراحل شوقى أبوعلى ومدحت الشوربجى وأسامة التاجى وغيرهم من المجموعة التى تحرك الرأى العام داخل الكلية التى تحولت إلى مؤسسة ثقافية مستقلة داخل الجامعة.
وفى نهاية العام الدراسى 1966 دخل الراحل د.عبدالملك عودة على العميد الراحل د.محمد زكى شافعى يستأذنه فى إضافة درجتى رأفة لكل من ممدوح عباس وناجى منصور حتى يتخرجا فى ذلك العام، فوافق د.زكى شافعى على الفور وقال له: لعل الكلية تهدأ ونتخلص من زعماء الشغب.. أعطِ كلًا منهما الدرجتين وسأوقع لك فورًا.. وقد ظلت العلاقة وثيقة بين ممدوح عباس وناجى منصور بعد سنوات التخرج، ووقف ممدوح بجانب ناجى فى مرضه وفى كل المشكلات التى واجهته وفاءً للصداقة واحترامًا للتاريخ المشترك.
ومن الطرائف التى لا أنساها أننى عندما توليت موقعى سكرتيرًا للرئيس مبارك للمعلومات، طلب منى ناجى أن أتصل به ولو لمرة واحدة فى هيئة الاستثمار - حيث كان يعمل - وذلك تعزيزًا له أمام رؤسائه وزملائه هناك، وبالفعل اتصلت وقلت لمن رد على: أنا فلان، فاستجاب محدثى بانتباه واحترام شديدين بحكم الموقع الذى كنت أشغله، فقلت له: إننى أريد أن أتحدث إلى الأستاذ ناجى منصور، فقال لى: نعم.. تقصد ناجى منصور زميلنا فى القطاع الزراعى، وظهرت علامات الدهشة فى صوته ولكنه قال: سوف أناديه لك.
وجاء ناجى منصور بعد خمس دقائق على الأقل - وكان من الواضح أنه قد جمع كل زملائه للاستماع إلى المكالمة - وبادرنى قائلًا: مصطفى لا تعطلنى.. كل يوم تتصل بى فى المنزل والآن فى المكتب ليس لدى وقت أضيعه، وحاول أن تتصل بى فى المساء وشكرًا، ولم أفهم لماذا فعل ذلك ولكننى علمت منه عندما التقيته أنه أراد أن يثبت للجميع عمق العلاقة بيننا والندية فى التعامل وعاش على هذه المكالمة بقية فترة وجودى فى مؤسسة الرئاسة، وهذه الطرفة توضح أسلوب الشابين الرائعين فى التعامل مع بعضهما ومع زملائهما.
ومازلنا نتذكر ناجى منصور بعد رحيله بسنوات ويتذكره أكثر منا رفيق دربه وزميل عمره ممدوح عباس - متعه الله بالصحة والعافية - وهو حاليًا يدير عملًا خيريًا كبيرًا فى صورة مستشفى ضخم للفقراء وللحالات الطبية الحرجة بخبرات دولية ومحلية، ولقد كان لنا أستاذ يتميز بالعلم الغزير والثقافة الرفيعة والاطلاع على الحضارتين الإسلامية والأوروبية.
وأعنى به د.حامد ربيع – رحمه الله – وقد اخترع درجة فى التقييم لما هو دون الصفر، فكان يعطى درجة (صفر ملوث) للإجابات التى لا ترضيه ولا تعبر عن عمق فى الدراسة أو رؤية فى التحليل، وقد رحل ذلك الرجل الذى لم أرَ له نظيرًا فى المعرفة وتأصيل النظرة فى ظروف غامضة بعد لقائه بمبعوث من رئيس العراق صدام حسين، حيث عمل حامد ربيع سنوات لديه مستشارًا سياسيًا غير معلن الاسم للاستفادة من شروحاته حول تأصيل المسألة اليهودية وتاريخ الفكر العبرانى وكيفية التعامل مع الأساليب الإسرائيلية التى تراوغ الشرعية الدولية.
وقد التقى د.حامد ربيع، المبعوث العراقى بأحد المطاعم فى القاهرة، وقدم له الضيف علبة من الشيكولاتة، تناول حبات منها حامد ربيع، ثم شعر بإعياء شديد حتى لفظ أنفاسه بعد ذلك، وقد توليت رعاية ابنه عبدالله، وهو من أم عراقية فاضلة كانت تعيش معه فى القاهرة، وذلك أثناء رئاستى للجامعة البريطانية فى مصر.. هكذا كانت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، تتيه بالعظماء من أمثال بطرس غالى ورفعت المحجوب وزكى شافعى وعاطف صدقى وعبدالملك عودة وعزالدين فودة.
وكان من المعيدين فى ذلك الوقت سمير رضوان الذى أصبح وزيرًا للمالية، والمرحوم سيد أبوالفتوح الذى كان معيدًا واعدًا فى قسم العلوم السياسية.. إن العلاقة بالزمن هى علاقة الإنسان بالحياة فى ماضيها وحاضرها، بل ومستقبلها.. وإلى اللقاء فى عدد قادم!.