حصلت على الثانوية العامة عام 1962 بمجموع يؤهلنى للالتحاق بكليات الهندسة والطب وكافة كليات القمة بغير استثناء، وفكرت مثل بعض زملائى فى الالتحاق بكلية الهندسة جامعة الإسكندرية التى يُقبل عليها كل المتفوقين من مدارس محافظة البحيرة القريبة منها، ولكننى خرجت على النص وغردت خارج السرب والتحقت بالكلية الجديدة (الاقتصاد والعلوم السياسية).
معتبرًا أن دراسة العلوم السياسية والاقتصاد هى طريق للعمل السياسى وحده إذ لم يكن التخصص الدبلوماسى واردًا فى ذهنى حينذاك، ومضت بنا القافلة الجديدة تشق طريقها وسط الكليات الجامعية المصرية العريقة، فكان مقرها فى ملحق كلية الحقوق بجامعة القاهرة وهو أمر يعتز به من تخرجوا من ذلك المبنى العريق فى تلك السنوات الباكرة من عمر كلية الاقتصاد والعلوم السياسية التى أعتز بالانتماء إليها.
وأفتخر بأننى كنت رئيس اتحاد طلابها، كما أعترف بأننى مدين بتكوينى الثقافى والفكرى لتلك الكلية وأساتذتها العظام، وأذكر منهم أسماء تركت بصمات على وجه الوطن منهم بطرس بطرس غالى ورفعت المحجوب وعبد الملك عودة وحامد ربيع وسعيد النجار وغيرهم من أساطين الاقتصاد والسياسة والإحصاء والإدارة.
وقد تولى معظمهم مناصب سياسية فى الدولة المصرية وفى المنظمات الدولية، وفى سنوات الدراسة لم يكن هاجس الالتحاق بالسلك الدبلوماسى يراودنى بل كنت أتطلع للعمل السياسى الذى كانت نوافذه محدودة فى ذلك الوقت ومقصورة على التنظيم الواحد الذى تجسده كاريزما عبد الناصر وعهده الحافل بالإنجازات الكبرى والإخفاقات الحزينة أيضًا.
وأنا أقول ذلك الآن معترفًا بانتمائى للمشروع القومى فى عصره، وأتذكر مع أبناء جيلى معاناة سنوات النكسة وما بعدها حيث كنا نستقبل السنوات الأولى فى حياتنا العملية، وأنا أسجل هنا أن وجود الدولة العبرية فى المنطقة العربية غيّر معالم قرن بكامله بحيث أضحى الصراع الدامى بسبب القضية الفلسطينية والسياسات العدوانية والاستيطانية والعنصرية لإسرائيل بما أدى إلى ما نحن فيه الآن.
وبالمناسبة فإننى كنت من المتطلعين إلى إمكانية التعايش المشترك فى المنطقة بين العرب واليهود خصوصًا أننى مؤمن تمامًا بفك الاشتباك بين الأديان والأوطان، وكنت أتوهم أن اليهود مستعدون للاندماج فى المجتمعات العربية أو حتى فى دولتهم التى اصطنعوها، شريطة الالتزام بحقوق الطرف الآخر والقبول بحل الدولتين، ولكن الأمر اختلف كثيرًا ومع مرور الوقت ظهرت النوايا العدوانية لإسرائيل.
وقد كانت لى شخصيًا قصة مع إسرائيل، ففى عام 2004 اتصل بى د.أحمد فتحى سرور رئيس مجلس الشعب وكنت وقتها رئيس لجنة العلاقات الخارجية فى المجلس، وقال لى إنه تلقى دعوة عاجلة من البرلمان الإسرائيلى (الكنيست) للمشاركة فى الاحتفال بالعيد الخامس والعشرين لتوقيع اتفاقية السلام.
وأنه عرض الدعوة على الرئيس الراحل مبارك الذى اقترح أن يمثل البرلمان المصرى فيها د.مصطفى الفقى وليس رئيس المجلس، اكتفاءً بذلك المستوى فى العلاقات البرلمانية بين الدولتين، ولم أتردد فى قبول الدعوة إيمانًا منى بأن ذلك تكليف لمهمة محددة، وقد قالوا إننى سوف أجلس إلى جانب شارون على المنصة فبدأت أرتب فى ذهنى للكلمة التى سوف ألقيها لتأكيد حقوق الشعب الفلسطينى، وضرورة احترام الشرعية الدولية والمضى على طريق دولة فلسطينية مستقلة.
وتوهمت وقتها أن ذلك أمر سوف يكون متاحًا عند مخاطبة أعضاء الكنيست، وعندما جرى إبلاغ الجانب الإسرائيلى برغبتى فى الحديث- وهو أمر متوقع- أجابوا بالرفض وأننى سوف أكون موجودًا باسمى وموقعى تمثيلًا للبرلمان المصرى دون إلقاء كلمة، واقترحوا أن أتحدث فقط إلى الصحفيين خارج قاعة المجلس، وكان واضحًا أن ذلك هو الأسلوب الإسرائيلى المعتاد لإجهاض كل محاولة لكشف الحقائق، فأبلغت رئاسة المجلس بأننى- والأمر كذلك- غير موافق على الذهاب.
لكى لا أحترق إعلاميًا وسياسيًا بدون مبرر ودون أن أسجل موقفى وموقف بلادى من مسيرة السلام العرجاء، ودخلت فى صدام مع مؤسسة الرئاسة المصرية حتى أبدى الرئيس الراحل غضبه الشديد لموقفى، فغادرت القاهرة وسافرت إلى جنيف لإجراء بعض الفحوص الطبية هروبًا من المهمة الثقيلة التى لا تتفق مع تاريخى ومواقفى عبر السنين، وكتب الأستاذان عادل حمودة ومصطفى بكرى رسائل صحفية فى الصفحات الأولى يحذراننى منها، تحت عنوان (لا تفعلها يا دكتور).
وبدأ التفكير فى إيفاد د.عبد الأحد جمال الدين- رحمه الله- بديلًا لى فى تلك المهمة ولكن جرى إجهاضها كلها بالمرة، إذ اغتالت إسرائيل فى ذات الأسبوع الشيخ أحمد ياسين زعيم حركة حماس وتلت ذلك باغتيال خليفته أيضًا عبد العزيز الرنتيسى، وعندئذ ألغى الرئيس مبارك مهمة المشاركة المصرية فى ذلك الاحتفال الذى لا يعبر عن الحقيقة حينذاك.
وكان الثمن الذى دفعته هو إيقاف مقالاتى الدورية فى الأهرام لمدة عام، حتى توسط رئيس تحريرها أ.أسامة سرايا لدى الرئيس مبارك فبدأ نشرها بعد طول احتجاب.. هذا فصل من فصول الحياة يوضح أن الاستغراق فى الكتابة الأدبية، وهى متعة، والاندماج فى الممارسة الدبلوماسية، وهى صنعة، أفضل من التعرض للتيارات السياسية، وهى عاصفة فى كل الأحوال.