بقلم - مصطفي الفقي
انشغلت الحضارة المصرية القديمة ببناء المقابر والمعابد، وتورطت بشدة فى الأفكار الغامضة حول الحياة والموت، حتى إن الأهرامات ذاتها هى مقابر تمهد لأصحابها الإقامة فى الحياة الثانية.
ولا شك أن المصريين القدماء قد سبقوا كل الديانات السماوية والأرضية فى توقعهم للحياة الأخرى أو الميلاد الجديد أو ما نطلق عليه (البعث).. وإذا كانت تلك هى فلسفة الحضارة المصرية القديمة، فإننا نؤكد أن لغز الموت هو الحقيقة الوحيدة فى الحياة الدنيا، ولقد انشغل صاحبنا بذلك منذ أن أصبح فتى يافعًا يتعاطى المعرفة ويلتهم الكتب؛ لأن الخيط الرفيع بين الحياة والموت هو أمر يؤرق ويطرح تساؤلات بغير حدود ودون إجابات شافية أيضًا.
لذلك اخترع المصرى القديم المعابد لتقديم القرابين للآلهة، تحسبًا ليومٍ لا نستطيع أن نحدده ولكننا نشعر به كلما تقدم العمر ومضت السنون، لذلك كان طبيعيًا أن يفطن المصرى القديم لحقيقة مؤداها أن لغز الموت مطروح أمام الأحياء فى كل لحظة.
وما زلت أتذكر أن الرئيس الفرنسى الراحل فرانسوا ميتران، وقد راقبته عن قرب فى أكثر من ستة لقاءات جرت بينه وبين الرئيس الراحل مبارك فى العاصمة الفرنسية خلال زيارات الرئيس المصرى لباريس، وقد كنت شديد الإعجاب بعقلية ذلك السياسى الفرنسى الذى نافس الجنرال ديجول على مقعد الرئاسة فى ستينيات القرن الماضى.
وبهرنى كثيرًا عمق النظرة لدى ذلك السياسى الاشتراكى المتمرس الذى كان يتحدث قليلًا ويضع فى كلمات محدودة أفكارًا كبيرة، وعندما أصيب بداء السرطان واقترب موعد رحيله وترك السلطة والعمل السياسى، سيطر عليه هاجس الموت وقرب الرحيل، حتى زاره بعض الأطباء النفسيين ورجال الدين ليشرحوا له فلسفة الموت كى يتهيأ للحياة الأخرى ويكتشف أن الموت هو الحقيقة الوحيدة الثابتة فى حياة كل الكائنات.
وقد انصرفت الحضارات الكبرى وانشغل المفكرون والفلاسفة بالحياة الثانية، حتى اكتشف المصرى القديم نظرية «التوحيد» على يد إخناتون، ومضت أساطير الأولين تتحدث عن مفهوم الرب وتوحد الآلهة، وقد سيطرت تلك الأفكار على عقل الفتى، وظل يناقش فى صمت وفى أعماق داخله قصة إيزيس وأوزوريس وحورس واختلاف الرواية الدينية عن الأطروحات التاريخية، حتى سيطرت تلك الأفكار العدمية على جزء من تفكيره.
وظلت لا تراوح مكانها لسنوات فى ذهن الصبى الصغير، ثم اكتشف بعد ذلك ومن خلال احتكاكه بمجتمعات مختلفة ودول متعددة أن استقبال الموت يختلف بينها، فهناك من يستقبلونه بمسحة حزن معتادة ولكنهم ينصرفون إلى حياتهم بعد ساعات قليلة من واقعة الرحيل.. وهناك شعوب تمعن فى الحزن، ولعل المصريين يمثلون نمطًا من ذلك، حتى اخترع الفراعنة موعد (الأربعين)، مؤكدين أن ذلك هو التوقيت الذى تتحلل فيه رفاة الراحل وتبقى عظامه ما لم يكن هناك تدخل بتحنيط الأجساد.
وهو الأمر الذى برع فيه المصرى القديم حين كان ينتظر الحياة الثانية ويسعى لحفظ الجسد حتى عودة الروح مرة أخرى، ولقد تأكد لصاحبنا بعد مضى السنين أن الموت حق على العباد، وراعه كثيرًا أن النسيان يلحق بكل ذكرى مهما طال الوقت، وأن دوران الكون هو سُنة الحياة، وأن الخلود لله وحده، كما أن الأديان هى طرائق للتعبد فى ظل الإله الواحد مهما اختلفت المسميات وتباينت التعريفات.
ولكن يظل الإنسان دائمًا متعلقًا بالإيمان كسبيل وحيد أمامه للتعامل مع ضائقة الموت وغموض الروح والخوف الغريزى الذى يجتاح البشر أمام احتمال الرحيل فى أى لحظة، على اعتبار أن ذلك هو توجُّه يمضى فوق الجميع ولا يُفرّق بين أحد من مخلوقات الله.
لقد أردت الكتابة فى هذا الموضوع معترفًا بالضعف البشرى أمام لحظة النهاية، مدركًا أن الله الذى خلق الإنسان لإعمار الكون هو سبحانه وتعالى الذى اختص ذاته بما لا تدركه مخلوقاته (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)!.