بقلم - مصطفي الفقي
إنه تاريخ ميلاد جديد لى ولزوجتى وابنتى الصغرى، فقد عينت سفيرًا فى النمسا ومندوبًا لدى الوكالات المتخصصة هناك وسفيرًا غير مقيم فى دول ثلاث أخرى قريبة من العاصمة النمساوية، وذلك فى سبتمبر عام 1995 وكان الطقس معقولًا إلى أن مضى شهر أو أكثر قليلًا لكى أشعر بانقلاب شديد فى الأحوال الجوية، فمع بداية نوفمبر غطت الثلوج البيضاء شوارع المدينة النظيفة فى تلك العاصمة الحسناء، وإن كانت تفتقد الروح التى تعطيها حيوية لندن وباريس وروما وتجعلها كالفتاة رائعة الجمال، لكنها ليست خفيفة الظل، رغم أنها مدينة الموسيقى والفنون بتاريخها العريق، وأعلنت وزارة الخارجية النمساوية وقتها عن الرحلة السنوية التى تنظمها للسفراء الأجانب وعائلاتهم، وكان الاختيار فى ذلك الوقت هو منطقة جبلية فى الشمال الشرقى للبلاد.
وقد شاركت أنا وزوجتى وابنتى المقيمة معنا لأن الكبرى كانت قد تزوجت وتعيش بعيدًا بحكم عمل زوجها، وفى اليوم المحدد نشطنا فى الصباح الباكر من شهر يناير حيث درجة الحرارة متدنية للغاية والبرودة شديدة والرياح قوية ووصلنا بعد عدة ساعات بالأتوبيسات الفاخرة إلى الموقع الأول فى الرحلة وكان لا بد أن ننتقل بين جبلين ارتفاعهما شاهق بواسطة (التليفريك) المفتوح بلا حواجز مع السلك الكهربائى الواصل بين قمتى الجبلين الكبيرين، وبدأت زوجتى بالتحرك وبعدها ابنتى وتبعتهما كل فى (تليفريك) مفتوح مستقل على ارتفاع شاهق عن الأرض لا يقل عن ثلاثمائة متر ولم تلاحظ زوجتى ضرورة إغلاق (التليفريك) من ناحية القدمين وتبعتها ابنتى دون أن تلحظ ذلك أيضًا، ومضينا نحن الثلاثة والتليفريك يتحرك على السلك الكهربائى مفتوحًا وبدون رابط، ثم بدأنا نكتشف فى منتصف الطريق الذى لم يستغرق بكامله إلا عشرين دقيقة أننا مكشوفون تمامًا ومعرضون للسقوط إذا نظرنا إلى أسفل، وبدأت أصرخ لابنتى وزوجتى، لكنهما لم يستطيعا أن يفعلا شيئًا خصوصًا أنهما ترتديان معاطف ثقيلة تجعل الحركة صعبة وتسمرت أيادينا على حرف (التليفريك).
ومما زاد الطين بلة أن الكهرباء انقطعت فى المنتصف لمدة لا تزيد على أربع دقائق كانت تبدو كأنها نهاية العمر كله، ورأيت يدى تأخذ اللون الأزرق بالكامل والزملاء من السفراء وأسرهم على الضفتين يصرخون فى قلق وتتعالى أصواتهم بضرورة التماسك، وعندما وصلنا إلى الجانب الآخر ونزلنا على الأرض شعرنا بما يشبه الإغماء وأخذونا فورًا إلى حجرة دافئة وأتذكر أن يدى ظلت زرقاء ما لا يقل عن ساعة كاملة وكأنها مجمدة كقطعة الثلج، ومنذ ذلك اليوم وقد اعتبرنا أنا وزوجتى وابنتى سارة أن ذلك يوم ميلاد جديد أتذكره دائمًا بقلق وتوتر وأستعيد اللحظات الصعبة التى كنت أمر بها فى الانتقال بين قمة الجبلين على سلك كهربائى بدون ضمانات لتأمين تلك الدقائق الرهيبة فى حياتنا، ولقد كانت ابنتى تريد العودة إلى الوطن وكنت معترضًا، لكنى وافقت فور انتهاء الرحلة فسمحت لها بالعودة، حيث جرت خطبتها إلى زميل لها وتزوجت بعد ذلك بشهور قليلة، وآمنت أن القدر يرتب الأشياء كما لا يتخيلها البشر، وأن العمر مكتوب فى لوح محفوظ لا يتأثر بالمخاطر، إذ إن لكل أجل كتاب، إننى أحكى هذه القصة معترفًا بأهميتها فى حياتى، لأننى رأيت النهاية رأى العين.
وكنا موزعين نحن الثلاثة زوجتى وابنتى وأنا بين الرعب القاتل وعدم القدرة على اتخاذ موقف ما، (فالتليفريك) لا يرجع مرة أخرى إلا بعد أن يقطع المسافة، وليس لدينا إلا الاستسلام للقدر الذى كنا نبدو أننا على موعد معه، فليدرك الجميع أن مشيئة الله هى الأقوى وهى التى تحرك الأمور على الطريق المرسوم، ولقد مكثت فى فيينا أربع سنوات بعد ذلك غير متحمس للجليد والثلوج والجو البارد رغم أن الدولة النمساوية تبدو كلها كالتحفة وفى وسطها أيقونة هى مدينة فيينا التى أتاحت لى أن أجلس على مقعد (سيجموند فرويد) فى المقهى الذى كان يرتاده (مقهى لاندمان) فى وسط المدينة، وأن أقترب كثيرًا من الرئيس النمساوى الأسبق (كورت فالدهايم) الذى كان سكرتيرًا عامًا للأمم المتحدة لدورتين كاملتين حيث كنت آخذه بسيارتى من مقهى موزارت، حيث ألتقيه، بسيارتى إلى منزله القريب حينذاك من مقر إقامة السفير المصرى، وقد طلب منى كتابة مقدمة الطبعة العربية لكتابه المهم وقد فعلت.. إنها ذكريات تطفو على السطح ويبدو استخراجها من الأعماق أمرًا مفيدًا للصحة النفسية والعقلية على السواء!.