بقلم : مصطفي الفقي
الدستور هو الأب الشرعى للقوانين وهو الوثيقة العليا فى مسيرة البلاد يتطلع إليه الشعب ويحترمه الحكام ولكنه أيضًا ابن ظروف إصداره والملابسات التى أحاطت بكتابته فهو وإن كان أكثر الوثائق احترامًا إلا أنه ليس كتابًا مقدسًا نطوف به على الدراويش صباح مساء، ولقد جمعتنى أخيرًا جلسة مع الأخ الكبير رئيس لجنة الخمسين السيد عمرو موسى - وهو واحد من الآباء الكبار للدبلوماسية المصرية المعاصرة - وسمعت منه كلامًا لا يختلف كثيرًا عما أشرت إليه بل إن الرجل - وهو وطنى مصرى وقومى عربى - يدرك أن ما يراه الشعب فى فترة معينة هو من حقه وحده ولا وصاية لأحد عليه ما دامت الأمور تمضى فى شفافية ووضوح ونزاهة وتعبر عما يصب فى مصلحة الشعب الذى كتب وثيقته العليا منذ سنوات قليلة، ولقد ناقشته فى ديباجة الدستور التى كتبها الشاعر الراحل سيد حجاب وكيف أنها كانت سياسية أكثر منها دستورية ولم يعترض ذلك السياسى المحنك والدبلوماسى المخضرم على ذلك ولكنه قال: كان يتعين عليك أن تعرف الضغوط التى كانت تحيط بلجنة الخمسين وحتى بلجنة العشرة؛ ولقد حاولت جاهدًا من منطق وطنى محايد أن أدفع بوجهات النظر المختلفة تجاه بلورة قانونية قد لا ترضى كل الناس، ولكنها تتسق مع الضمير الوطنى وقتها، وقد احترمت فى الرجل العازف نسبيًا عن الحياة العامة المصرية حاليًا والمتفرغ للمؤتمرات الدولية واللقاءات الرئاسية التى يدعى إليها - وما أكثرها - معبرًا عن غايات الوطن ومشيدًا بنجاح السياسات الرامية إلى بناء الدولة العصرية الحديثة، ولقد دفعنى ذلك الحوار إلى طرح الملاحظات الآتية:
أولًا: إنه لابد من نسبة كل كلمة إلى أوانها، فقد كنت على سبيل المثال من المتحمسين لإلغاء مجلس الشورى وأنا أعترف بأن عودة مجلس الشيوخ ضرورة لإحداث التوازن البرلمانى وتوزيع الأعباء بين المجلسين فى دولة المائة مليون نسمة، ولقد كان عمرو موسى شخصيًا ومعه تيار كبير يرون الإبقاء على المجلس الأعلى - الشورى - ولكن التصويت حسم الأمر فى غير صالح بقائه وبفارق ضئيل فى الأصوات، ولقد عاتبنى السيد عمرو موسى وقتها على انتقادى للذين طالبوا ببقاء ذلك المجلس ولأننى متعود على عتابه عبر السنين فما أكثر ما عانيت من الاختلاف معه فى الرأى ولكننى أشهد أنه كان دائمًا صديقًا ودودًا مترفعًا عن الخصومة الرخيصة معى أو مع غيري.
ثانيًا: إن دستور البلاد تعرض فى العقود الأخيرة لتعديلات كثيرة ومازالت الذاكرة المصرية تفاخر بدستور عام 1923 ومن بعده بمسودة الدستور التحضيرى عام 1954 فضلًا عن احترام باب الحريات العامة فى دستور عام 1971، وإذا كانت هناك بعض التساؤلات حول دستور عام 2014 فلأنه كان دستورًا طموحًا ربما يسبق قدرة البلاد على هضم ما فيه، ويكفى أن مدة الرئاسة الواحدة أقل من مدة المجلس النيابى بل وأقل من مدة تنفيذ خطة خمسية واحدة! ونحن هنا لا نروج دعاية لأحد، ولكننا نقف مع الحقيقة الموضوعية التى تتماشى مع ظروف البلاد فأربع سنوات فى الحكم قد تكون فترة مناسبة فى الولايات المتحدة الأمريكية ولكنها لا تكون كذلك فى الدولة المصرية شريطة ألا يترك الحبل على الغارب ونعود لحكم الثلاثين عامًا مرة أخري.
ثالثًا: إن الإصلاح السياسى يضع فى اعتباره فى المقام الأول قضايا الحريات وأهمية إبداء الرأى والحوار المجتمعى بين القائد وشعبه، وكلها ضمانات يجب أن يكفلها دستور متوازن لا يضع قيودًا زمنية على بعض المشكلات الفرعية مثلما حدث فى مسألة تهجير أبناء النوبة ولا يضع أيضًا قيودًا رقمية على نسبة ما تأخذه الصحة والتعليم من (الدخل القومي) فالأوفق هو أن تكون النسبة من (الإنفاق القومي).
رابعًا: لقد تمت كتابة الدستور الأخير فى ظل أجواء أحداث 2011 و2013 وما بينهما من هزة عنيفة أثرت فى الوجدان المصرى ووضعت صناع الدستور فى إطار يتحمس لبعض الأطروحات المؤقتة ويرضى بعض الأطراف بأكثر مما يجب، ولأن عمرو موسى قانونى متوازن - فهو ابن مدرسة الحقوق المصرية - إلا أن الغلبة فى الحاضرين كانت من النشطاء السياسيين وليست من الخبراء الدستوريين ومع ذلك فإن واضعى ذلك الدستور يتصفون بسلامة المقصد وقد قال رئيس الدولة عبد الفتاح السيسى ذات مرة إن ذلك الدستور قد وضع بحسن نية.
خامسًا: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، هذه الأية الكريمة تؤكد حق الشعب الذى وضع الدستور فى أن يتناوله بالتعديل إذا اقتضت الضرورة ذلك شريطة أن تكون الأهداف عامة ووطنية . فمصر فوق الجميع وللجميع وبالجميع، ولا بأس فى أن يتناول التعديل عودة نظام المجلسين وتمديد كل مدة فى الرئاسة دون العبث بعدد المدد إلا إذا جاء بينها محلل شرعى باسم آخر بعد المدتين ولا بأس من اللجوء إلى أسلوب القيادة الجماعية ضمن نظام رئاسى قد تحتاجه البلاد أكثر من غيره فى السنوات المقبلة رغم أننى أزعم بأننى من المتحمسين طوال عمرى للنظام البرلمانى الذى عايشته فى دولة الهند وقبلها فى بريطانيا وبعدها فى جمهورية النمسا.
يعلم الله أننى لا أكتب هذه الكلمات إلا بوحى من ضميرى ولم أتحدث مع أحد بشأنها لأننى أعلم أن رئيس البلاد وطنى حتى النخاع يهدف إلى مصلحة وطنه وشعبه، كما أننى أدرك أن واضعى الدستور القائم كانوا يتطلعون إلى ما يخدم مصلحة الوطن من وجهة نظرهم حتى ولو أثار ذلك لغطًا فى بعض القضايا مثل ما جرى لمنظومة الإعلام الرسمى وغياب وزيره أو ما يتصل بالمفوضية الوطنية ضد التمييز وغيرهما من الأطروحات العصرية التى تحتاج إلى بلورة وتعظيم وتطوير .. حمى الله الوطن والشعب والدستور!
نقلاً عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع