بقلم : مصطفى الفقي
ساقتنى ظروف تحديد إقامتى بالمنزل رعبًا من الوباء اللعين إلى أن أنقب بين الأوراق وأمهات الكتب ومحطات التليفزيون أسترجع ما فات وأتذكر ما مضى، ووقع فى يدى (شريط تسجيل) للقاء عميد الأدب العربى، الدكتور طه حسين، فى ستينيات القرن الماضى، خلال برنامج الإعلامية اللامعة التى لن تتكرر، ليلى رستم، مع قمة النخبة الثقافية فى ذلك الوقت، بترتيب من الكاتب الراحل أنيس منصور، وضمت النخبة أسماء مثل محمود أمين العالم، ويوسف غراب، وعبد الرحمن بدوى، ويوسف السباعى، ونجيب محفوظ، وعبدالرحمن صدقى، وعبدالرحمن الشرقاوى، وثروت أباظة، وكامل زهيرى وأنيس منصور بالطبع، وقد أثنى العميد فى ذلك اللقاء بصفة خاصة على اثنين من تلاميذه الحاضرين، وهما محمود أمين العالم وأمين يوسف غراب، والذى يشاهد ذلك اللقاء التاريخى يدرك كم كانت الثقافة المصرية لا تزال متماسكة الأركان ثابتة الأعمدة، لها تقاليد راسخة وقيم عريقة، فتلك الكوكبة من ألمع مفكرينا كانت تتحلق حول عميد الأدب العربى أستاذًا ومعلمًا وفيلسوفًا وهو يتحدث بصوته المميز ذى الجرس الموسيقى الناعم الذى يشد الأسماع ويبهر العقول وكأنه موسيقار يعزف على قيثارة الزمن أجمل الألحان فى تاريخ الفكر والأدب والشعر ويتنقل فى عظمة وكبرياء بين آفاق الشعر الجاهلى وصولًا إلى الشعر الفرنسى الحديث، وتلاميذه ينصتون فى احترام واضح ويوجهون له أسئلة عميقة بدءًا من سؤال فى الفلسفة الألمانية لتلميذه الذى منحه الدكتوراه ذات يوم وهو عبدالرحمن بدوى وقد قال العميد يومها بعد انتهاء مناقشة دكتوراه «بدوى» إنه يشهد ميلاد فيلسوف عربى كبير، ولقد ظلت هذه العبارة وسامًا على صدر عبدالرحمن بدوى حتى رحيله، بعد أن أصدر كتاب ذكرياته، الذى هاجم فيه الجميع ترجمة أمينة لقناعاته الصادقة، وقد استرسل العميد فى الحديث عن الفروق بين الكتاب الأدبى والكتاب الفلسفى ولم يجد فرقًا بين التاريخ والتأريخ وقد أعطى كتابه «على هامش السيرة» منزلة خاصة من حيث مستواه الفلسفى والخط الدرامى للأحداث فى ذات الوقت، ثم عرج على أيقونته «الأيام» وتمنى أن يكمل الجزء الثالث منها، كما علق بسرعة وخفة على كتابيه «الوعد الحق» و«الشيخان» وغيرهما من كتب السيرة، ثم كانت المفاجأة أن أعلن فى صراحة وفى معرض الإجابة عن أحد الأسئلة أنه لم يفهم معظم (العبقريات) للعقاد، خصوصًا عبقرية عمر، وأضاف أن منهج التحليل النفسى الذى اعتمده العقاد فى كتاباته لا يكفى وحده فى تقديم تلك الشخصيات التى أثرت فى تاريخ البشرية والمسلمين تحديدًا، ثم أبدى ملاحظة ذكية لنجيب محفوظ قائلًا له إنك ملتزم دائمًا يا نجيب فى إشارة ذكية إلى الحذر الغريزى الذى تمتع به أديب نوبل فى كتاباته، خصوصًا فى العصر الناصرى، كما علق على الفتى مهران، فى تحية مباشرة للشاعر عبدالرحمن الشرقاوى، ولكن الذى لفت نظرى بشدة هو إلمامه الواسع بأحدث نماذج الإنتاج الأدبى والفكرى على المستويين العالمى والعربى، فهو يعرف كل الأدباء والمفكرين الفرنسيين، كما يتابع كل محاولات المجددين فى الأدب المحلى بما فى ذلك تعليقه على ما كان يسمى الشعر المرسل، أى المتحرر من القافية، فى ظل ريادة مجموعة الشعراء الجدد من أمثال «عبدالصبور» و«حجازى» وغيرهما فى ذلك الوقت عندما كان العقاد متشددًا مع ذلك التيار، محيلًا أعمال أقطابه إلى لجنة النثر بدلًا من لجنة الشعر، التى كان يترأسها فى المجلس الأعلى للعلوم والفنون والآداب، وكانت المفاجأة بالنسبة لى متمثلة فى الثقافة الرفيعة لمقدمة البرنامج، مديرة الحوار، ليلى رستم، فهى تجارى تلك المجموعة من أقطاب الفكر فى وجود العميد وتبدو على نفس كفاءتهم وثقافتهم واكتمال رؤيتهم، وعند ذلك تذكرت مقدمى البرامج فى الزمن الجميل عندما كانوا يقرأون ويدرسون أكثر مما يقولون ويتحدثون، ولقد أشار العميد ذاته فى ذلك اللقاء إلى ذلك الأمر عندما سئل عن النصيحة التى يوجهها لجيل الشباب من الأدباء، فقال: عليهم أن يقرأوا أكثر مما يكتبون، فالرصيد الثقافى يأتى بتراكم المعرفة كما كان يبدو فى تلك الجلسة، التى أطالب بإعادة إذاعتها حتى يدرك شبابنا كيف كانت علاقة المعلم بتلاميذه وكيف غابت عن حياتنا تلك التقاليد الرائعة حتى بلغنا عصر كتابات التواصل الاجتماعى! ولقد حكى لى الكاتب الراحل أنيس منصور قبيل وفاته بسنوات قليلة أن عميد الأدب العربى قال له هامسًا فى بداية تلك الجلسة: (يا أنيس، المدام- يقصد زوجته- توصيكم خيرًا بأثاث المنزل، فلا تعبثوا به!)، فقد كان اللقاء فى منزل عميد الأدب العربى ذات مساء من وقت كانت فيه النجومية مرتبطة بالفكر والثقافة والأدب والشعر والفن.. رحم الله العميد وكافة تلاميذه الذين حضروا ذلك اللقاء وقد رحلوا جميعًا عن عالمنا ولكن بقيت ذكراهم وسامًا رفيعًا وضعه العميد على صدر كل منهم!